الدولة العميقة والخطاب الشعبوي في إسرائيل
لم تتحمّل الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو يوم إضراب واحد، فالمشاركة الواسعة لأغلب مؤسّسات الدولة في الإضراب الذي جرى أخيرا خلال الأحداث التي شهدتها إسرائيل، كنقابة العمال (الهستدروت)، المطارات، الموانئ البحرية، المعابر، البورصة، شركات المواصلات، والاتصالات، والخدمات الطبية باستثناء حالات الطوارئ، والسفارات الإسرائيلية ... وغيرها، إضافة إلى دعوات واسعة لرفض التعاون مع الحكومة في الجيش والشرطة. كاد ذلك كله أن يُدخل إسرائيل في حالة شلل تام ممتدة، لولا تراجع نتنياهو وإعلانه تعليق التشريعات التي كانت تستهدف القضاء في إسرائيل.
كان ما حدث صادما لجمهور اليمين عامة، وجمهور المتدينين بشكل خاص، فالخريطة السياسية في إسرائيل تؤكّد على أن نسبة جماهير اليمين، العلماني والديني، هي الأكبر في إسرائيل، إلا أن ما أصاب الدولة من شلل خلال يوم فقط من الإضراب كشف لليمين هناك أن مفاصل الدولة ليست في أيديهم، على الرغم من سيطرة اليمين على الحكومة في فترات مختلفة، جديدها أخيرا كانت بقيادة نتنياهو، والذي استمر حكمه أكثر من عقد مضى، باستثناء فترة حكم لبيد/ بينت لعام ونصف العام.
إحساس اليمين في إسرائيل بسيطرة الدولة العميقة ذات التوجّه اليساري كبير للغاية، وهو إحساس قديم ومستمر، غير أن الأيام الماضية عمّقته إلى درجة أشعرت اليمين في إسرائيل بحسرة كبيرة ظهرت في كتاباتهم بشكلٍ غير مسبوق، وظهر معها شعورهم باحتقار اليسار لهم؛ هذا المعنى عبرت عنه وزيرة الإعلام في الحكومة الإسرائيلية جاليت دستال، حين غرّدت وكأنها تتحدّث بلسان اليسار الإسرائيلي "أيها اليمينيون الأعزاء، لم تخرُجوا للتظاهر تأييدا للإصلاح، ولم تصوّتوا للإصلاح، بل لم تعرفوا الإصلاح، ولم يخبروكم عن الإصلاح، ولم تغضبوا على تجميد خطة الإصلاح، لأنكم بشكل عام غير موجودين أصلا". وفي مقالة "الديمقراطية كما هي: حكم الأغلبية، أم حكم الشارع؟" أعرب الصحافي أفياتار كوهين عن حسرته مما حدث خلال الأسابيع الماضية، وما نتج عنه من تعليق لخطة الإصلاح القضائي.
إحساس اليمين في إسرائيل بسيطرة الدولة العميقة ذات التوجّه اليساري كبير للغاية، وهو إحساس قديم ومستمر
يرى اليمين الإسرائيلي أن قدرة أي وزير في الحكومة على التأثير في سياسة وزارته وأنشطتها محدودة للغاية، فالقانون الصارم يبعد السياسيين، وهم الوزراء في هذه الحالة، عن اتخاذ القرارات، والتأثير في وزاراتهم، لكنه لا يجنّبهم تحمّل المسؤولية، وإذا ما حدثت أزمة في نشاط وزارة ما حينها يكون الوزير هو المذنب. أما الموظفون الكبار الذين يمتلكون القوة دائما في كل وزارة (وهم الممثلون للدولة العميقة) فلا يتم تحميلهم المسؤولية أبدا ... وإذا كانت قدرة الوزير للتأثير في الوزارة تتم عبر التعيينات التي يقوم بها فإن عليه أن يكون ملتزما بتوصيات مستشاري الحكومة والوزارات، وإلا فويل له ولمن يعيّنهم.
ويرى أمير ليفي، وهو كاتب يميني، أن اليسار اعتاد أن يرفع علم الديمقراطية والشفافية، لكنه في الحقيقة يعمل ضد رغبات الشعب، ويتعاون مع الدولة البيروقراطية العميقة، حينما تأتي الانتخابات على غير ما يرغب. ومن هنا فإنه (اليسار)، حينما يكون في السلطة يبني شبكات نفوذ واسعة مع الجهاز البيروقراطي وسلطات إنفاذ القانون، لكنه إذا خسر يحشُد حكومة الظل تلك عبر المسؤولين ومستشارين داخل الحكومة، فتوضع العراقيل للحكومة المنتخبة من خلال ذرائع الضوابط والتوازنات، والحماية من الأنشطة غير المشروعة للسياسيين. ويتفق على هذه الرؤية التي قدمها ليفي اليمين الإسرائيلي بشكل عام. وتسمّى حكومة الظل هذه في إسرائيل باسم "حرّاس البوابة"، وهي التي اصطلح على تسميتها في بلدان أخرى باسم الدولة العميقة.
وتفيد الصحافية الإسرائيلية ستيلا قورين ليبر بأن حكومات اليمين منذ صعودها إلى الحكم بدءا من مناحيم بيغن وإسحاق شامير، وصولا إلى بنيامين نتنياهو، لم تستطع أن تغيّر تركيبة الـDNA الخاصة بالدولة العميقة في إسرائيل؛ فبينما كان الأوائل لا يمتلكون الخبرة الإدارية لفعل ذلك، لم يكن نتنياهو يمتلك الشجاعة والقوة من أجل المواجهة. ويعبر أغلب قادة اليمين وجماهيرهم عن هذا الإحساس بشكل دائم؛ وكثيرا ما يتعرّضون للسخرية من السياسيين والكتاب المنتمين لليسار والوسط في إسرائيل؛ ففي مقال يعود إلى العام 2017 سخر الرئيس السابق لحركة ميرتس اليسارية نيتسان هوروفيتس من شكوى بنيامين نتنياهو، الذي كان حينها رئيسا للوزراء، من الدولة العميقة التي تعرقل خططه، واعتبر أن ما يروّجه نتنياهو شكل من الهوس، ويتناسب مع من يؤمنون بنظرية المؤامرة. وسخرت الكاتبة اليسارية أوريت كمير في مقال لها في "هآرتس" بنهاية عام 2022 من اليمين بشكل عام، لإيمانه بوجود الدولة العميقة، ومن اعتقاده أن للدولة العميقة أجندتها الخاصة، وتعرقل المسؤولين المنتخبين من اليمين تحديدا عن أداء مهام الحكم التي كلفهم بها الشعب عند انتخابه لهم.
خلفت الأحداث في إسرائيل أخيراً شعوراً لدى اليمين بالهزيمة رغم حيازته الأغلبية في الكنيست، وعمّقت الشرخ بين اليمين واليسار
وتقدّم الكاتبة الإسرائيلية دانا ألكسندر، نائبة مركز أكورد للدراسات النفسية والاجتماعية في الجامعة العبرية، توصيفا لما يحدُث من صراع بين اليمين واليسار في إسرائيل، وكيف يؤدّي إلى تصاعد الخطاب الشعبوي بشكل سريع؛ فالصراع حاليا بين فريقين أو أساسين؛ يتمسّك أحدهما بالسيادة الشعبية التي تنتجها عملية الانتخابات، ويتمسّك الآخر بحقوق الإنسان، مدعوما بمؤسّسات نخبوية غير منتخبة، أو بتعبير آخر صراع بين فريق قوته نابعة من الأعداد ونخبة قوتها في رأس مالها الثقافي والاقتصادي ونفاذها إلى مراكز القوة. وتشير ألكسندر إلى أن الفريقين لا يمتلكان القدرة على الإجابة عن أسئلة مهمة؛ ففي وقتٍ لا يملك فيه مؤيدو التغيير إجابة جيدة عن سؤال: ما القيود المشروعة التي تُلزم سلطة الأغلبية بحماية حقوق الجميع؟ فإن معارضي التغيير لا يملكون أيضا إجابة واضحة عن سؤال: ما الوسائل المشروعة التي تظهر سيادة الشعب في قضايا الخلاف العميق؟ وترى ألكسندر أن انشغال المحكمة العليا بموضوعات عديدة محل الخلاف بين الفرقاء السياسيين في إسرائيل أدّى إلى إشاعة انطباعٍ بأنها هي السلطة التي تبتّ في هذه القضايا وليس الشعب، وهي بذلك تمارس ما يمارسه "حرّاس البوابة" أو "الدولة العميقة"، ومن هنا تصبح المحكمة العليا لاعبا غير محايد في هذا الصراع، حتى وإن كانت تقوم بالفعل الصحيح للدفاع عن حقوق الأقليات ضد جشع الأغلبية.
ولطالما كان العداء الجماهيري عند اليمين كله ضد وسائل الإعلام ووصفها بأنها مؤسّسات نخبة تخدم مصالح الدولة العميقة قويا، لكن الجديد اليوم أن أحداث الأزمة الحالية في إسرائيل أدّت إلى تصاعد غير مسبوق لخطاب شعبوي يصوّر بعض مؤسسات الدولة، وفي مقدمها النظام القضائي، أنها تخدم قيم (ومصالح) النخبة التي تسيطر عليها بدلا من عامّة الناس، وهو ما يقيم حالة صراع وعداء بين الشعب والنخبة، خصوصا حين تشعر قطاعات واسعة من الجماهير بأن هذه المؤسسات منفصلة عنها وعن قيمها، وأنها لا تمثلها، بل وتمنعها حتى من ممارسة سلطتها الديمقراطية عبر الحكومة المنتخبة ... وبذلك يكون المجال مهيأً لصعود السياسيين الشعبويين وازدهار الخطاب الشعبوي الذي سيحوّل هذه المؤسسات إلى فاعل سياسي وطرف في الصراع، وتتراجع ثقة هذه القطاعات أكثر في مؤسساتٍ تعتبرها متعالية فوق إرادة الشعب، وتصبح مهمة السياسيين أصحاب الخطاب الشعبوي أكثر سهولة.
ما حدث في إسرائيل خلال الأسابيع الماضية، وما خلفته أحداثها من شعور لدى اليمين بالهزيمة رغم حيازته الأغلبية في الكنيست، عمّقا الشرخ بين اليمين واليسار عامة، وبين المتديّنين واليسار خصوصا، وهو شرخٌ سوف يزداد تعمقا، وسوف تكون تداعياته السياسية والاجتماعية خطيرة على إسرائيل في المستقبل، ولا يمكن لأحدٍ أن يتكهن كيف يمكن أن ينتهي، خصوصا وقد أظهرت أحداث سابقة إمكانية أن يتطوّر تأثير الخطاب الشعبوي في الجماهير إلى مراحل خطيرة قد تصل إلى حد الاغتيال السياسي.