الخفّة التي "لا تُحتمل"... أستانة السورية وأخواتها

27 نوفمبر 2022
+ الخط -

مع تقدّم الانهيار وتسارع وتيرته، وتراجع مقوّمات الحياة، يصبح أفراد المجتمع غارقين في معاناتهم، من دون معرفة أي الأسباب أكثر وجاهةً لما هم فيه، ويفقدون الأمل ويتخلّون عن المقاومة بمنتهى اليأس. فهل صحيحٌ أن حاجز الخوف قد تحطّم عند الشعب السوري، أم إن الخوف متجذّر في داخله والنتائج التي نجمت عن حراكه أدّت إلى ازدهاره من جديد، والقضاء على إمكانية تغيير الظروف التي وصل إليها؟

لو أمعنّا النظر في واقع الشعب السوري بعد 11 عامًا من الحرب المدمّرة، فإن غالبية الإحصائيات تفيد بأن ما يفوق الملايين العشرة هم خارج البلاد، في بلدان اللجوء وفي المخيمات، والباقون موزعون على مناطق سلطات الأمر الواقع، بين سيطرة النظام والمناطق الأخرى، وكل هؤلاء يعانون بطرق متشابهة، وإن اختلفت الأدوات بين منطقةٍ وأخرى قليلًا. لكن هل كان كل هؤلاء قد اختاروا الانزلاق إلى العنف، وفضّلوا خيار السلاح والحرب في مقاومتهم الظلم والاستبداد؟ ها هي سلطات الأمر الواقع تتجاهل، في كل المناطق، المحدّدات القانونية والدستورية والأحكام القضائية والرأي العام، وتفرض قوانينها أو شريعتها، وتمارس التضييق على الحريات، واعتقال أو حتى قتل أصحاب الرأي المختلف معها أو الرافض أساليبها القمعية. لقد دفع الشعب السوري أثمانًا باهظة في مقارعة الاستبداد، منذ صارت العسكرة والدعم الخارجي الذي أغدق بوفرة من أجل التسليح وإدامة الحرب، لدى كل الأطراف، هي الأسلوب النضالي الوحيد، فهل حقّقوا، لقاء هذه التضحيات الكبرى ما كانوا يرنون إليه: الحرية؟

الأصوات الرافضة للعنف والعسكرة والتدخلات الخارجية قوبلت بالإقصاء، ولم تحظَ بالدعم

يقول جين شارب، في كتابه "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية: إطار تصوّري للتحرّر": "إن استخدام العنف، مهما كانت حسناته، يعكس بوضوح أمرًا واحدًا، أن اللجوء إلى وضع الثقة في أساليب العنف إنما يعني استخدام أسلوب للنضال يتميز الطغاة دائمًا بالتفوق فيه". وهذا كان نقطة خلافية باكرة في عمر الحراك الشعبي السوري، لكن الأصوات الرافضة للعنف والعسكرة والتدخلات الخارجية قوبلت بالإقصاء، ولم تحظَ بالدعم، بل جرى طمسها أو تغييبها، وفُرضت القوى المؤيدة وسلّمت دفة القيادة وتمثيل الشعب في الخارج، واستأثرت بالقرار في الداخل، إلى أن صار الحراك ميدانًا لتقاسم النفوذ وإدارة الصراعات من أجل تحقيق مصالح للقوى الداعمة، مقابل القوى الأخرى الداعمة للنظام أيضًا، وهذا بات معروفًا للقاصي والداني.

كلما فكّر أحدهم بصوتٍ عالٍ، وتساءل: هل ما زالت هناك ثورة؟ ترتفع الأصوات المندّدة والشاجبة والمستنكرة، بل والمخوّنة، ضدّه، لكن أليس هذا سؤالًا وجيهًا؟ وكيف يمكن أن تعيش ثورة ويحصل التغيير المنشود الذي كان من المفترض أن يعمّ كل البلاد السورية، وهذه البلاد مقسّمة، والزمن يفعل فعله بتحويل ما هو مؤقّت إلى دائم؟ هل ما زالت هناك المطالب والطموحات نفسها بالنسبة إلى كل فئات الشعب السوري وشرائحه، مع الاعتراف بأنها لم تكن موحّدة بالمطلق مع بداية الحراك؟ هل هم قادرون على وضع هدفٍ وحيدٍ مشترك أمام أعينهم، وتوحيد الصفوف والجهود من أجل تحقيقه؟ وهل الأهداف ما زالت نفسها عند كل هذه الفئات التي توزّعت في مناطق نفوذ متباينة؟ أم صارت هناك أهداف أخرى فرضها واقع الحال والأمور المستجدّة محليًا وعالميًا؟

لا مجال للقرار المستقل، ولا الإرادة الحرّة في إنهاء الحرب، أو حتى تأطيرها في أنساق محدّدة

لو فكّرنا بطريقة خيالية، أو فانتازية، وتصوّرنا أن يتحقق استفتاء "حرّ ونزيه" يُطرح على الشعب السوري في جميع المناطق، وفي الداخل والخارج، يمارس كل فردٍ حرّيته الكاملة، من دون إكراه أو تخويف، حول سؤال وحيد فقط: هل تريدون سورية موحّدة، وتحت نظام حكم علماني ديمقراطي؟ ما هي نسبة الشعب الذي سيوافق على هذا الطرح؟ أخمّن أن نسبة كبيرة لا تستطيع التفكير خارج فكرة السند الخارجي، يعني أنها ترى أن ما ضمن استمرارها في الوجود، برغم كل التراجع في مقوّمات حياتها، هو وجود طرفٍ خارجي شكّل سندًا وحاميًا لها في وجه الطرف الآخر، أو أكثر من طرف، كان يهدّد وجودها، ما يعني، ببساطة أكثر، أن معظم الشعب صار مقسّمًا في وجه بعضه بعضا، وكل قسم يرى، في مكوّن آخر، سبب مأساته وكارثته الوجودية. وفي الواقع، باتت كل هذه الفئات تعاني من الديكتاتورية بطريقةٍ أو بأخرى، وهذا يدعو إلى اليأس.

ما الذي تحقق بعد كل هذه المدة؟ إنه فقط ترويض القوى الخارجية والضالعة في حرب الشعب السوري، وجعله، في كل منطقة واقعة تحت نفوذ قوة ما، قاعدة مدجّجة بالولاء والانتماء لهذه القوة، وجاهزة للدفاع عن مصالحها والدخول في حروبها، من دون أن يملكوا حرية القرار، أو حتى الوعي بأن تكون لهم إرادة حرّة ومستقلة، وهذا بمثابة نتيجة يمكن القول إنها متوقعة بسبب ما مورس على الشعب في العقود السابقة من قمع وكمّ الأفواه والدفع بالوعي والتفكير باتجاه الأنساق التي تتبناها الفئة الحاكمة.

في الواقع، مؤسّسات المجتمع، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، تابعة للسلطة القائمة في كل مناطق النفوذ، من نظام وغيره، وتستخدم في السيطرة على المجال العام، وبذا فإن المجتمع/ المجتمعات السورية أصبح مجموعات من الأفراد المتنافرة فيما بينها، أو غير قادرة على الالتقاء حول أهداف مشتركة والعمل معًا من أجلها، وربما فاقدة الثقة فيما بينها، فكيف يمكن بلوغ الحرية المنشودة، وهم مرتهنون إلى عوامل تتضافر مع الارتهان وتعرقل الحرية في التفكير والاختيار والقرار؟

لم يعد العالم مهتمًا بالمؤتمرات والمنصّات والجلسات التفاوضية التي تدّعي الوصول إلى تسويات للأزمة السورية

بمسح سريع لواقع الحال، بين شمال وجنوب، وشرق وغرب لسورية، سوف نرى أن لا مجال للقرار المستقل، ولا الإرادة الحرّة في إنهاء الحرب، أو حتى تأطيرها في أنساق محدّدة، لأن هذا يتبع المفاوضات بين الدول الكبرى والقوى الإقليمية المسيطرة على الوضع السوري، وها هي العملية العسكرية التي تشنّها تركيا في الشمال السوري والشمال الشرقي دليل واضح، والتصريحان الأميركي والروسي فيما يخص هذه العملية أيضًا، وتلاقي الأهداف الإيرانية مع التركية فيما يخص هذه العملية، وضرب إيران مواقع في شمال العراق، حيث وجود الأكراد.

قال مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سورية رئيس الوفد الروسي في مباحثات أستانة، ألكسندر لافرينتييف، إن الاعتداءات التركية على الأراضي السورية تزامنت مع اجتماع أستانة الحالي، وأثرت على سير المباحثات، مشدّدا على أن هذه الاعتداءات التي تشنها أنقرة على الشمال السوري ستصعّد الوضع في منطقة الشرق الأوسط عموما. وليس في كلام المبعوث الروسي ما يدعو إلى العجب، إنما انعقاد هذه الجلسات التفاوضية أو الحوارية بعد 11 عامًا من المقتلة السورية هو ما يدعو إلى العجب، فما الفائدة من كل المؤتمرات والمنصّات والقرارات الأممية، وقبلها قرارات جامعة الدول العربية، وأصدقاء سورية، والاتفاقيات وغيرها، إذا كان كل يوم زيادة يحمل معه مزيدا من الانهيار بالنسبة للشعب السوري وحياة أفراده الموزّعين على مناطق النفوذ المختلفة، وتحت سلطات الأمر الواقع؟ وما الفائدة طالما العالم يُمسك أنفاسه أمام ما يحصل فيه من حروبٍ وصراعاتٍ لإعادة توزيع مراكز القوى والسيطرة على العالم، ونحن مجرّد تابعين ولسنا مؤثرين في هذه الصراعات ولا في القرارات؟ هل المفاوضات تُجدي، أو توصل إلى أي نتيجة، عندما يكون هناك نظام ديكتاتوري قوي، وفي المقابل معارضة، ليست ديمقراطية ضعيفة، إنما أبعد ما يكون عن الديمقراطية ومنقسمة وتعمل بالإملاءات الخارجية؟ ما الذي يفشل المفاوضات، واللجنة الدستورية ومحادثات أستانة؟ هل هو شعور النظام بأنه انتصر، وبقوته، أم ضعف المعارضة وتشرذمها، وعدم قدرتها على تبنّي خطاب يدعو إلى الديمقراطية؟ أو ارتهانات الأطراف كلها إلى الخارج وتنفيذ الأجندات الموضوعة؟ أم أننا، وهو لبّ المشكلة، لم نستطع أن نحرّر أنفسنا من كلّ قيودنا ورواسبنا ووعينا، وبأيدينا؟ هذه أسئلة يطرحها اليأس المستوطن في نفوس غالبية الشعب السوري، في وقتٍ لم يعد فيه العالم مهتمًا أيضًا بهذه المؤتمرات والمنصّات والجلسات التفاوضية التي تدّعي الوصول إلى حلول وتسويات للأزمة السورية، حتى إن محطات إعلامية عديدة لا تكترث بها ولا تأتي على ذكرها.