الخديوية الجديدة في مصر
وكأنك تقرأ في صفحات رواية "1984" للكاتب الإنكليزي جورج أورويل، التي تصوّر الدولة الاستبدادية المهيمنة على مصائر مواطنيها ومصادر معلوماتهم وتوجيهها كيفما تريد. بات شعار"الجمهورية الجديدة" يزيّن كل القنوات المصرية الموجهة إلى الداخل أو الخارج، وكأنه يكفي أن تعلن الدولة عن هذا الشعار ليبدو واقعياً بالفعل! ليختلط ذهن المشاهد بين الشعار واسم الفيلم أو المسلسل أو البرنامج الذي يعرض أمامه على الشاشة، وهو الأمر الذي يطرح سؤالا أساسيا، هل هي جمهورية جديدة فعلا، أم شكل آخر من أشكال الحكم والإدارة، وتبدو أقرب تاريخيا إلى تجارب أخرى عاشتها مصر منذ عصر محمد علي، وإلى أنظمةٍ شموليةٍ لا زال بعضها باقيا في العالم.
وما الجديد إذاً في جمهورية عبد الفتاح السيسي ليُطلَق عليها هذا الوصف؟ وتنشأ الأنظمة الجديدة وتتغير مسمّياتها لما تحقّقه من انقطاع مع سابقاتها، بحيث تتبنّى عقدا اجتماعيا جديدا ينهض بالدولة، وينفذ إرادة الأمة ويحقق رغباتها. مثلا، نشأت الجمهورية الفرنسية الخامسة مع صدور الدستور الجمهوري في أكتوبر/ تشرين الأول 1958، بعد انهيار الجمهورية الرابعة، لتستبدل الحكومة البرلمانية بالنظام شبه الرئاسي، ونظام تنفيذي ثنائي يقسم السلطات بين رئيس الوزراء بوصفه رأس الحكومة والرئيس رأس الدولة. حيث تولّى فيها رؤساء متتابعون بدءا من ديغول إلى ماكرون.
ينفرد نظام السيسي بسيطرة فردية مطلقة، تشبه سلطات الملوك في العصور الوسطى الأوروبية، في صنع السياسات وتوجيهها
من جهة أخرى، درج باحثون على تقسيم النظام الجمهوري في مصر إلى جمهوريات أولى وثانية ثم ثالثة، حسب التوجهات الأيدولوجية، أو اسم الرئيس. وعلى ذلك، أطلق وصف الجمهورية الأولى على الحقبة الناصرية، والجمهورية الثانية على حقبة أنور السادات وحسني مبارك لاتفاق توجهاتهما السياسية والاقتصادية في الارتباط بالمعسكر الغربي والصلح مع إسرائيل واتباع التوجه الرأسمالي، وظني أنه يمكن ربط حقبة السيسي بهذه الجمهورية، حيث يبدو مخلصا أمينا لتوجهاتها متبنّيا أقصى يمينها السياسي. ولكنه يختلف معهم في بعض الجوانب، حيث سمح سابقوه لمؤسّساتٍ أخرى بالمساهمة في صنع القرارين، السياسي والاقتصادي، ومنها التنظيمات السياسية التي أنشئت بعد ثورة يوليو (1952)، مثل الاتحاد الاشتراكي ثم الحزب الوطني وأمانة سياساته، بالإضافة إلى جمعيات رجال الأعمال والنقابات المهنية والعمالية، خصوصا في الحقبة الساداتية والمباركية. بينما ينفرد نظام السيسي بسيطرة فردية مطلقة، تشبه سلطات الملوك في العصور الوسطى الأوروبية، في صنع السياسات وتوجيهها، واتّخاذ القرارات المصيرية في كل مجالات الإدارة وسياسات الأمن القومي المصري والعربي. ولعل أكبر الأزمات التي واجهتها مصر ولا تزال، بسبب هذا الأسلوب، ما جرى في التخلّي عن جزيرتي تيران وصنافير مرورا باتفاقية سد النهضة، انتهاء بمشروع إنشاء صندوق هيئة قناة السويس. كما انفردت المؤسّسة العسكرية بالهيمنة من خلال الاحتفاظ بأراضي الدولة ومقدّراتها، والتدخّل في أدقّ التفاصيل اليومية، ومنها عسكرة الوظائف المدنية ومرور العاملين في الدولة الجدد بدورة تأهيل ستة أشهر في أكاديمية ناصر العسكرية التي غيّروا مسمّاها.
على مستوى الحرّيات العامة، تأتي جمهورية السيسي في صدارة العداء لحرّية التعبير والتجمّع السلمي والحقّ في المشاركة وتداول المعلومات
كما لا تؤمن هذه الخديوية بأي دور للمحاسبة الشعبية، إذ تستبدلها بالمحاسبة الإلهية، وهو خطابٌ أقرب إلى الأنظمة الثيوقراطية التي ترى أنها مختارة بإرادة إلهية. وفي اتجاه آخر، تحمل دائما الشعب المسؤولية عن حل الأزمة الاقتصادية وغيرها من أزماتٍ تسببت فيها هذه الخديوية.
على مستوى الحريات العامة، تأتي جمهورية السيسي في صدارة العداء لحرية التعبير والتجمع السلمي والحقّ في المشاركة وتداول المعلومات. بعكس الحقبة المباركية التي سمحت بهامش سياسي للأحزاب والإعلام الخاص والمستقل ومنظمات المجتمع المدني. وفي الجانب الاقتصادي، وصف جلال أمين، في كتابه عن الديون المصرية، أنور السادات بالخديوي إسماعيل في تبنّيه سياسات القروض من دون وضع أولويات وبأعلى نسبة للفائدة، وفي مشاريع لا تنتج فائضا ماليا يمكن أن يسدّد تلك الفوائد. والرأي عند صاحب هذه المقالة أن التشبيه الأدقّ لجمهورية السيسي يمكن أن يكون "الخديوية الجديدة"، فهي امتدادٌ لسياسات الخديوي إسماعيل وأبنائه بثياب جمهوري.
ويمكن القول إن التاريخ يعيد نفسه، وبشكل خاص بتشبيه ما يقوم به صندوق النقد الدولي في صنع السياسات الاقتصادية في الوقت الراهن بدور صندوق الدين الثنائي، الذي أنشئ بمرسوم من الخديوي إسماعيل فى مايو/ أيار 1876 للإشراف على سداد الحكومة المصرية ديونها للحكومات الأوروبية، التي تراكمت في هذا الوقت، بإدارة إنكليزية فرنسية مشتركة، تكون رقيبا على تلك السياسات.
وكما استبدل الملك فؤاد دستور 1923 بدستور 1930 المستبدّ، جرت تعديلات على دستور 2014، حيث دمّرته تماما، وفتحت الباب لفترات جديدة للرئاسة، كما فعل السادات في عام 1980، ليصبح، في نهاية الأمر، وثيقةً شكليةً لا تحضر إلا في التقارير الحكومية، والمعدّة للرأي العام المحلي والدولي، وكذلك في الاستراتيجيات المتعدّدة التي صاغتها الإدارة المصرية، وتضعف من هذه الحقوق، وفي الوقت نفسه، لا تجد لها مجالا للتطبيق، لتبقى مجرّد إعلانات نظرية، مثلها مثل التصديق على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.
الأقرب والأصحّ تغيير مسمّى الجمهورية إلى الخديوية الجديدة، ليكون أقرب إلى واقع المرحلة السياسية الصعبة التي تعيشها مصر منذ 2014
وكما كان ساكن القصر في عصر محمد علي وخلفائه سعيد وإسماعيل وتوفيق وفؤاد وفاروق الحاكم المهيمن على الأمور كافة، السيسي كذلك، من دون اعتبار لأي مؤسسات أخرى، وليكون دور مجلس النواب الحالي أشبه بدور مجلس شورى النواب عام 1866، والذي لم تتجاوز اختصاصاته الطلب من الحكومة تقديم مشروعات قوانين، من دون الحقّ في اقتراحها، وكان رئيسُه يُعيّن بأمر من الخديوي، بينما تحوّل مسمّى البرلمان في العصر الجمهوري من مجلس للشعب والأمة، ليصبح مجلسا للنواب، لا يعبر، في النهاية، عن إرادة شعبية.
وعلى الرغم من السيطرة التاريخية الدائمة للسلطة التنفيذية في مصر، إلا أن وجود بعض التنظيمات التي أنشاتها دولة يوليو بديلا عن الأحزاب السياسية، التي جرى حلها عام 1953، خفّف، إلى حدّ ما، من هذه السيطرة، بالرغم من استمرار الدولة في حل البرلمانات ومجالس النقابات المهنية والإيمان بأحادية التنظيم النقابي، وإضعاف نقابتي المحامين والصحافيين. ورغم ضغوطه لحل الأحزاب الشيوعية المصرية، سمح عبد الناصر بتعدّد المنابر المعبّرة عن هذه التيارات، مثل مجلتي الطليعة والثقافة الجديدة وغيرهما، بل وسمح لشيوعيين كثيرين بالمشاركة في المناصب الوزارية والسياسية، إلا أن الخديوية الجديدة لا تؤمن بهذا التسامح السياسي على الإطلاق.
وكما كان الملكان، فؤاد وفاروق، ينشئان أحزابا تابعة للقصر، والحرس الحديدي، ويزوران الانتخابات ضد حزب الوفد ويقيلان حكوماته، تفعل الخديوية الجديدة، بحيث تهيمن الأجهزة الإدارية والأمنية على صناعة القرار، ويتبعها حزب مستقبل وطن، الوريث لدور الحزب الوطني وأحزاب القصر في العصر الملكي، والذي يجرى تعيين مسؤوليه في مستوياته القيادية والمحافظات من دون انتخاب.
الأقرب والأصحّ تغيير مسمّى الجمهورية إلى الخديوية الجديدة، ليكون أقرب إلى واقع المرحلة السياسية الصعبة التي تعيشها مصر منذ عام 2014.