الخبز أم الحريّة أولاً؟
في الأسبوعِ الأوّل من أغسطس/ آب 2021، قال إنّه حان الوقت لرفع سعر رغيف الخبز، وإنّ شيئاً لن يوقفه أو يردعه عن الاقترابِ من الخبز، الذي كان يمثل قنبلةً موقوتة، يحاول كلّ من سبقه في حكم مصر أن يتجنّب انفجارها في وجهه.
قبل ذلك، وعلى مدار سنوات، كانَ النظامُ يقايضُ الشعب على حريّته وكرامته مقابل الخبز، إذ كان التخويف من الثورة والتحذير من مطالبِ التغيير الديمقراطي منهجاً ثابتاً في الخطاب الرسمي والإعلامي، لأنّ من شأن ذلك أن يعرّض البلاد لأخطارٍ خارجيةٍ وداخليةٍ تحرم شعبها نعمتي الأمان والخبز.
استمرّت الحربُ على الحريّة سنوات بحجّة حمايةِ الخبز، وأُهدرت قيم دستورية راسخة بالمبرّرات ذاتها، فتعدّل الدستور وفُتحت الفترات الرئاسية حتى يوم القيامة، واقتيد سياسيون وعسكريون ورجال قضاء إلى السجون لأنّهم فقط أعلنوا نيّتهم الترشّح ضدّ الرجل الذي يطعم المصريين خبزًا، ومن هؤلاء أخيراً النائب السابق، أحمد طنطاوي، بعد حبسه بقضيةٍ ملفقةٍ بتهمة جمع توكيلات شعبية تُزَكّيه مرشّحاً.
الآن، بعض الاطمئنان لإنجازِ مهمة قتل السياسة والتكفير بالثورة وقتل أحلام التغيير عبر صندوق الانتخابات الحقيقية، تكتمل الحربُ على رغيفِ الخبز ليصحو الفقراء على فرمانٍ من أعلى سلطةٍ بزيادةِ سعر الرغيف أربعة أضعاف، مع زياداتٍ بنسبةٍ أقل في أسعار الوقود والكهرباء، والأدوية في الطريق، وهي مجموعة السلع الأساسية التي تخشى أعتى الحكومات الاقتراب منها، أو على الأقل لا تعبث بها على هذا النحو من الفجاجة والتحدّي، وكأنه ليس ثمّة شعب هناك، أو بالأحرى ليس ثمّة شعبٌ يغضب ويحتج ويرفض، كما كان يحدُث دائمًا في ظروفٍ أقلّ وطأة.
من المقولات الشائعة إنّ من لا يملك خبزه لا يملك حريّته، غير أنّك لو دقّقت جيّداً في الواقع الحالي، وفي تجارب التاريخ، ستجد أنّ معكوس هذه العبارة هو الأدق، لأنّ من يفقد حريّته أو يتخلّى عنها طوعاً أو كرهاً أو خداعاً، لن يستطيع أن يدافع عن خبزه لو سلبه منه الذين أقنعوه بالتخلّي عن حريّته لقاء الخبز، وينطبق ذلك على الأفراد كما على الحكوماتِ التي ترهن إرادتها السياسية والاقتصادية وتغضّ الطرف عن خدشِ كرامتها لقاء نيل ما يجودُ به الذين استعمروا هذه الإرادة، سواء دول مانحة أو هيئات دولية مُقرضة، تخضع في مبتدأ الأمر ومنتهاه لإرادةِ الجبابرة الأوغاد الذين يبحثون عمّن ينام في فراش التبعية، بمفهومها السياسي والاقتصادي.
في تبريرِ القراراتِ الاقتصادية المعلنة أخيراً، تكون الظروف الإقليمية والعالمية حاضرةً على الدوام لتسويغ طعن الطبقات الشعبية الأقل قدرةً بهذه القسوة، ومن ذلك ما يعلنه المسؤولون في مصر طوال الوقت، الذي يكون في الغالب استثماراً في أزماتٍ تحدُث خارجها، هكذا كانت حرب روسيا وأوكرانيا، والآن العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، والذي كان حاضرًا بكلمةٍ للسيسي في أثناء الاحتفال بيوم الشرطة في يناير/ كانون الثاني الماضي: "أنا بقول الكلام ده، يعني، بستدعي بيه إيه؟ بستدعي بيه قد إيه إحنا بنواجه الظروف على حدودنا، الحدود بتاعتنا، الغربية والشرقية والجنوبية.. إوعوا تفتكروا إن الأمور دي بتعدي وما بيكونش ليها تأثير علينا ولا تأثير على اقتصادنا.. كل حدث من دول بيبقى ليه تداعيات".
أيضاً، تحضرُ قضية المقيمين العرب في مصر عنصراً ثابتاً في تبريرِ الفشل الاقتصادي، بادّعاء أنّ مصر تستضيف وتنفق على نحو عشرة ملايين راجل، وهذا كلامٌ يخاصمه الصدق بشهادةِ المؤسّسات الدولية، التي تؤكد أنّ عدد اللاجئين لا يتجاوز نصف مليون شخص، تتلقّى عنهم القاهرة مبالغ طائلة من هذه المؤسّسات، جديدها أخيراً ما أُعلن بشأن حصول مصر على أكثر من مليار يورو من أجل اللاجئين السوريين فقط. وبحسب تقرير مؤتمر بروكسل، حصلت مصر على تعهداتٍ وقروضٍ لصالح اللاجئين السوريين على أراضيها بنحو 1.28 مليار يورو (نحو 1.4 مليار دولار) خلال العام الماضي 2023.
لا توجد أدلةٌ تسند الكلام إنّ العدوان على غزّة يؤثر بالسلب في اقتصادِ مصر ويدخل ضمن الأسباب التي تدفعها إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، بل إنّ التقديرات تذهب إلى أنّ مأساة الشعب الفلسطيني الشقيق أنقذت الاقتصاد المصري من الموت. وبحسب تقرير لراديو مونت كارلو، أعادت الحرب على غزّة مصر إلى الواجهة السياسية، وبصورة موازية سارعت أوروبا بإعطاء قروضٍ بعشرة مليارات دولار، لم تكن في الحسبان.
كما غيّر صندوق النقد الدولي خطابه وأسلوبه، بعد أن امتنع كلّ السنة الماضية عن منحِ قرض بثلاثة مليارات دولار كان قد أقرّها في فبراير/ شباط العام الماضي، يبدو أنّه خفّض من مطالبه الإصلاحية، ومستعدٌ أن يرفع قيمة القرض، بل أن يعجّل في منحه. ومن المؤشّرات الأخرى أيضًا استقبال وزيرة الخزانة الأميركية وفداً اقتصادياً رسمياً مصرياً مع وعود بدعم الاقتصاد المصري.
لا يستطيع أحدٌ أن يزعم أنّ راديو مونت كارلو يقع ضمن الإعلام المعادي للنظام المصري، كما أنّه ليس إخوانيّاً بالطبع، لكن الأهم من ذلك كله أنّ الكيان الصهيوني الذي كلفته حربه على الشعب الفلسطيني نحو 60 مليار دولار، أقدم على تخفيضِ أسعار البنزين بعد يومٍ فقط من قرار مصر التي تتدفق عليها مليارات الدولارات، زيادة أسعار الطاقة بنحو 30%.
هذا ما جرى في مصر التي لا تحارب ولا ترد اعتداءً على حدودها وكرامتها، بل إنّها تنتعش ماليّاً نظير موقفها من هذه الحرب.