بيروت الميقاتية التي لا تشبه لبنان
أين بيروت؟ هل ما زالت في لبنان، أم أنّ التاجر الشاطر نجيب ميقاتي باعها للصحراء؟ ليس السؤال عن بيروت الجغرافية بالطبع، بل يتعلّق ببيروت التاريخية، شخصيّتها وملامحها وقيمها التي جعلتها قبلة الهاربين من القمع والبطش والتضييق على الحريّات في أزمنة المدّ الاستبدادي العربي. كيف دهس نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، ذلك كله بحذاء ثقيل ثم ألقى به في البحر، أو في مزاد الدم والحريّة مقابل أعلى سعر؟
ما بالنا وعبد الرحمن يوسف لم يذهب إلى بيروت ضيفًا، لم يقصدها زائراً، بل كانت معبره في طريق العودة من دمشق، كما كانت في طريق ذهابه إلى دمشق، مُهنئًا محتفلاً بثورةٍ أطاحت واحداً من أعرق نظم الاستبداد العربي، تلك النظم التي انتعشت بيروت، ثقافيّاً واجتماعيّاً، حين فتحت أبوابها السبعة أمام الباحثين عن هواء الحريّة، حريّة الإبداع وحريّة التعبير، ماذا جرى لكي تصطاد "بيروت الميقاتية" شاعراً عربيّاً وتبيعه للجاهزين بالثمن، من دون أن يهتزّ لها جفن؟
يصف الروائي اللبناني الراحل إلياس خوري بيروت الحقيقية في مقال له في مجلة الآداب البيروتية، مجلة كلّ المبدعين والأحرار العرب، فيكتب: "قديماً، كانت بيروت محاطة بسور له سبعةُ أبواب، وكانت أبواب المدينة تُقفل في الليل وتُفتح في النهار، زال السور وزالت الابواب، ولم تعد بيروت محاطة بالحجارة والأقفال، وزالت أبوابها السبعة. وبدل الأبواب القديمة بُنيت أبواب جديدة، تحمي المدينة، وتدافع عنها وتفتحها على الآفاق. الأبواب الجديدة ليست من خشب وحديد، إنها أبواب هشةٌ، مصنوعة من الورق والعرق والحب".
هذه بيروت التي اختارتها كلّ الطيور العربيّة المُهاجرة بشعرها ونثرها وحريّتها، بيروت التي احتضنت عشرات المبدعين والفنانين المصريين والعرب في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، حين عبست حكوماتهم في وجوههم وكشّرت عن أنيابها، والتهمت حقوقهم في حريّة التعبير والإبداع، كما في حالة الفنان التشكيلي والكاتب الصحافي الراحل حلمي التوني، الذي روى للزميل كارم يحيى جانباً من ذكريات الهجرة إلى بيروت، حيث بقي فيها 13 عامًا بدءاً من عام 1973، حيث مرّ سريعاً بملابسات منعه من العمل، وحرمانه الدخول إلى مقرّه بدار الهلال، وإثر قرار لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي فبراير/ شباط 1973 إسقاط عضوية 64 صحافياً من التنظيم السياسي الوحيد حينها، وبالتالي، فقدان شرط لازم لعضوية نقابة الصحافيين المصريين وممارسة المهنة.
وجاء قرار الحرمان من العمل في عهد انور السادات على خلفيّة تضامن مجموعة من المثقفين مع حركة طلاب الجامعات المُنادية بتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي بالقوّة والسلاح من دون مزيد انتظار، وبحريّة التعبير والديمقراطية ومكافحة الفساد. واتهم النظام وصحافته المشمولين بقرار إسقاط عضوية الاتحاد الاشتراكي بالشيوعية، وإن كان التوني لم ينضم إلى أيٍّ من تنظيماتها، وظلّ يعتبر نفسه "ثائراً متمردّاً" كما يصف نفسه، يساريّاً من دون التزام تنظيمي أو قيود عقائدية.
يقول التوني عن وصوله إلى بيروت صيف 1973: "السفر جاء بعدما سدوا كل السبل في وجهي". هذه هي بيروت التي فتحت ذراعيها لعشرات، بل مئات من حلمي التوني، شعراء وروائيين وتشكيليين وسياسيين، لم تضج ولم تفكّر في الاتجار بهم، ماليّاً وسياسيّاً، لأنها كانت "بيروت اللبنانية" لا "بيروت الميقاتية" التي تنصب الكمائن للعابرين من المعارضين، وتصطادهم وتبيعهم لمحترفي الشراء، كما في جريمة تسليم الشاعر المصري، حامل الجنسية التركية عبد الرحمن يوسف القرضاوي، للإمارات التي طلبته بإلحاح، وأعلنت استعدادها للحصول عليه بأيّ ثمن، وأرسلت طائرتها الخاصة لنقل الصيد الثمين إلى سجونها ومسالخها.
هل نلوم بيروت وحدها، أم أنّ عواصم أخرى، عربية وغير عربية، تدّعي وصلاً بالحريّات والثورات على القمع والاستبداد، وقفت تتفرّج على مراحل تنفيذ الصفقة، من دون أن تمدّ يدًا تستنقذ رجلًا ابن رجلٍ قلّما جاد بمثله الزمان، فقيه هذا الزمان وشيخه العلّامة يوسف القرضاوي الذي نهش أوغاد الزمن المُتصهين سيرته حيّاً وميتاً؟ أم نلوم سذاجتنا المُفرطة حين توهّمنا أنّ دماء جمال خاشقجي الذي صار أيقونةً لكلّ المنحازين إلى القيم الإنسانية، الباحثين عن العدل، سترسم خريطة لواقع عربي وشرق أوسطي جديد، وتعيد الاعتبار لقيمة اسمُها الكرامة الإنسانية، بعد أن هزّت ضمير العالم هزّاً عنيفاً إلى الحدّ الذي تخيّلنا أنّها لن تتكرّر مجدّداً؟.
كلّ الأسى على بيروت الساكنة في الوجدان العربي، أما أنت أيها الشاعر الأسير فعهدُنا بك أنك لا تنكسر مثل أبيك، فسلام عليك من كلّ أحرار العالم، ولكلّ من شاركوا في الجريمة خالص الاحتقار.