الحوار بين رؤية الدولة وأهداف المعارضة المصرية
بدأت، أخيراً، في مصر، أولى جلسات الحوار الوطني بعد انتظار طويل تجاوز العام، ويبدو أن هذا التأخر المتعمّد كان مدعاة لإحراج النظام، وتأكيداً لوجهات نظر المشكّكين في جدوى الحوار من عدمه، وبشكل خاص مع استمرار النهج الفردي للإدارة المصرية في كل المسارات السياسية والاقتصادية، من دون وضع مطالب المعارضة في الاعتبار. واللافت هنا ورود جمل في كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي الموجّهة إلى الجلسة الافتتاحية في الثالث من مايو/ أيار الحالي، ومنها الدعوة إلى "بناء دولة ديمقراطية حديثة"، وأن "الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية"، وهو ما يضع علامات استفهام بشأن ما يحدث من إجراءات تتعارض مع حرية الرأي والتعبير، وتؤكّد سياسة الصوت الواحد. السؤال الأساسي: هل يمكن أن يُدار حوار جاد وحقيقي في ظل تواصل القيود المفروضة على العمل السياسي في مصر، باتجاه تحقيق مطالب الحركة المدنية والرأي العام، وأهمها المشاركة في صنع القرار ومراجعة سياسات النظام، التي أدّت إلى أخطر أزمة اقتصادية تعيشها البلاد، أم يظلّ الوضع "محلّك سر" بالتعبير العسكري، ويبقى الحوار شكلياً ومعزولاً عن تعديل هذه السياسات التي تزيد من معاناة المصريين. ويؤيد هذه المخاوف حظر مجلس الأمناء تناول بعض الموضوعات، وأهمها تعديل الدستور والسياسة الخارجية والأمن القومي، وهو ما يحرم المشاركين من حقوقهم، خصوصاً بعد إجراء تعديلات قسرية للدستور عام 2019، ويحرمهم أيضاً من مناقشة مشكلاتٍ في صميم الأمن القومي، مثل سد النهضة وجزيرتي تيران وصنافير وغيرها.
ويشكّك فريق في مدى الرهان على جدّية هذا الحوار، بما يؤدّي إلى إمكانية الخروج من الأزمة التي صنعها النظام الحالي. ومن الواضح أن لمخاوف كثيرة ما يبرّرها من أن تكون هذه الجلسات كسابقاتها لا تقدّم جديداً، وهو عين ما حدث حين عقد المؤتمر الاقتصادي في العام الماضي، والذي استغلته الدولة لدعم سياساتها وتجاهلت ملاحظات المعارضة بشكل كامل. ويبدو أن النظام يتبنّى أهدافاً مختلفة عن ذلك، أهمها: الايحاء للرأي العام بأن هناك نافذة محتملة للتغيير، وبالتالي، يبقى الجميع في الانتظار، حتى ينتهي الحوار الذي يجرى تصويره كأنه كاف لإثبات رغبة الدولة، المهيمنة، في مشاركة الآخرين، وهو ما يساعدها في تحميلهم جزءاً من المسؤولية عن أوضاعٍ لم يتسبّبوا فيها.
يشكّك بعضهم في مدى الرهان على جدّية هذا الحوار، بما يؤدّي إلى إمكانية الخروج من الأزمة التي صنعها النظام الحالي
من جهة أخرى، يهدف الحوار إلى استيعاب غضب المعارضة المدنية، حتى لا يتفاعل مع الغضب الشعبي، بما قد يؤدّي إلى حراكٍ سياسي غير مرغوب، وفي الوقت نفسه جذباً للراغبين في الظهور السياسي والمتفائلين بالمشاركة في أي منتدى، حتى ولو لم يحقّق أهدافه. وكسب النظام مزيداً من الوقت لاستكمال خططه السياسية والاقتصادية ببيع مزيد من الأصول، ناهيك عن الفترة الطويلة المحدّدة لإجراء الحوار، والتي تنتهي في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وبالطبع، يمكن مدّها إلى آجال مماثلة، وبعدها لكل حادث حديث!
وبالتالي، يصبح الحوار نوعاً من جلسات الرياضة السياسية داخل اللجان، التي يصل عددها إلى 119 لجنة فرعية، بحضور حشد من المؤيدين والتحالفات الرسمية بغرض الهيمنة على مجريات الحوار، وتجميع أكبر عدد من القيادات النقابية والجمعيات الأهلية والشبابية والرياضيين والفنانين ورؤساء الجامعات ورجال الدين، ليتحوّل من حوار سياسي إلى مجتمعي يناقش كل المشكلات التي لا تمثل أولوية في الوقت الراهن، وهو ما يُدخل الحوار في مزيد من المتاهات، ووضع مزيد من العقبات أمام المعارضة التي ستبدو أقليةً ضمن الحضور. ويبرز هنا خلاف واضح داخل أحزاب الحركة المدنية التي قرّرت المشاركة بعد تصويت مجلس أمنائها بأغلبية 12 صوتاً، بنسبة لا تزيد عن 57%، وهي أغلبية بسيطة توضح شكوك قطاع كبير منها في جدوى الحوار الذي يجرى بالرغم من مخالفته موقف الحركة في مايو/ أيار العام الماضي، كما يمكن أن يؤدي ذلك إلى إشعال خلافات داخلها، وهو ما حدث باستقالة قيادات شبابية في حزب الكرامة اعتراضاً على حضور جلسات الحوار.
في الوقت نفسه، لا تضع الحركة أي سيناريوهات بديلة لاحتمالات فشل الحوار ومراوغة النظام في تنفيذ مطالبها الجوهرية، وتظل تلك الدعوة ككل الخطوات التي جرت في العامين الأخيرين، ومنها إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وإعادة تدشين لجنة العفو، مجرّد خطوات شكلية لم تؤدّ إلى إحداث أي تغيير جوهري في سياسات النظام. يؤيد ذلك استمرار نهج الأجهزة الأمنية في القبض على أعضاء في أحزاب المعارضة المشاركة (الكرامة والناصري والدستور)، بالإضافة إلى الصحافي حسن القباني والناشط هاني سليمان، وعدد من جماهير النادي الأهلي. وأخيرا، إحالة أنصار وأقارب للنائب السابق والمعارض أحمد طنطاوي إلى نيابة أمن الدولة وحبسهم، وهو الذي أكد سعيه إلى خوض انتخابات الرئاسة في العام المقبل. وقبلها إحالة المنسّق السابق للحركة المدنية، يحيى حسين، إلى قضية أخرى، بتهمة نشر أخبار كاذبة، رغم صدور عفو رئاسي عنه في قضية مشابهة.
سيستمر النظام في مصر في محاولات تحسين صورته أمام الرأي العام داخلياً وخارجياً من دون تقديم أي تنازلات
على الناحية الأخرى، سيستمر النظام في محاولات تحسين صورته أمام الرأي العام داخلياً وخارجياً من دون تقديم أي تنازلات، وفي الوقت الذي يتجاهل فيه القيام بأي خطوات لحل إشكالية الحبس الاحتياطي المطوّل ومراجعة القيود على حرية الرأي والتعبير ومواصلة حبس الأصوات المنتقدة الأوضاع السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي. والسيناريو الأساسي الذي يعمل عليه إطالة جلسات الحوار إلى أبعد فترة ممكنة، من دون أن يكون لها تأثير على مجرى الحياة السياسية أو مراجعة التوجهات الاقتصادية الخاطئة التي تعتمدها الدولة ولا تزال، وتواصل المناخ المعادي للحقوق والحريات، وهو ما يمثل تجاهلاً لمطالب الحركة المدنية.
ويمثل جانب كبير من جدول الأعمال المطروح التزامات قانونية واجبة التنفيذ وفقاً لنصوص الدستور والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان. فضلاً عن ذلك، هناك وضع سياسي واقتصادي متردٍّ لا يحتمل الانتظار، ويحتاج مبادرات عملية وقانونية سريعة وكذلك تراجعات عن بعض السياسات، وتشريعات تدفع بها أجهزة الدولة إلى البرلمان، ويمكن الأخذ بمقترحات الحركة المدنية في هذا الشأن.
أخيراً، ليس هناك تصور واضح لكيفية خروج التوصيات والاقتراحات، بالتصويت أم بالتوافق، ومن يصيغها في شكلها النهائي، وهي التي ستعرض لاحقاً على رئيس الجمهورية الذي يضع كل السياسات، ويشرف على متابعتها من دون مشاركة من المؤسّسات الأخرى، وهو بدوره ينفذ ما يراه صالحاً للتنفيذ، بحسب تعبير منسق مجلس الأمناء، الأمر الذي قد يستبعد مقترحاتٍ مهمة وجوهرية، وتتعلق بتغيير طريقة الإدارة والسياسات المتبعة من النظام.