الحوار المصري بين حسابات المكاسب والخسارة
على نحو مفاجئ، قرّرت السلطة في مصر تعليق جلسات الحوار الوطني الذي بدأ في شهر مايو/ أيار الماضي، واستمرّ خمسة أشهر، بالرغم من أن مجلس أمناء الحوار لم يُشر في توصيات المرحلة الأولى إلى أن ثمّة تعليقا، وكأن هذا القرار صدر من أجهزة أخرى في الدولة كانت راغبة في ذلك.
وكانت قوى سياسية ومجتمعية مصرية قد علقت آمالها عليه، ليكون بداية إحداث تحوّل ما في الحالة السياسية المصرية المحاصرة بالتشريعات المقيّدة للحرّيات العامة وخنق حرية الرأي وزج المعارضين خلف أبواب السجون سنوات من دون إحالة إلى المحاكمة، وللأسف كان رهانا خاسرا.
وجاء التعليق بمبرّر التمهيد للانتخابات الرئاسية، وحسبما قيل "لرفع الحرج"، لأن الحوار الوطني يهدف إلى التوافق بينما الانتخابات قائمة على التنافس، وهذا مبرّر ليس مقنعا بالتأكيد، فاستمرار تلك الجلسات في ظل هذا المناخ كان يمكن أن يؤدّي إلى إشاعة الحيوية في الشارع السياسي، خصوصا إذا كانت جلسات الحوار طرفا في متابعة التفاعلات الانتخابية، ودخلت في حوار مع المرشّحين فيها، واستضافتهم لمناقشة برامجهم السياسية، وهذا بالتأكيد سيعطي مساحة ودافعا أكبر لمشاركة المصريين في المتابعة والتصويت. ويبدو أن الرهان على شكلية هذا الحوار كان صحيحا إلى حد كبير، وأنه أطلق بغرض تبييض صفحة الإدارة المصرية، من دون الالتزام بتنفيذ حقيقي لمخرجاته.
حقق الحوار الهدف المبتغى منه لصانعيه، وهو إعطاء إيحاء للرأي العام الدولي بوجود نوع من الحراك السياسي الداخلي، لتقليل الضغوط الدولية باتجاه إحداث إصلاح سياسي وحقوقي فعّال
ويظهر قرار التعليق جزءا من توجّه عام إلى إنهاء جلسات الحوار بشكل كامل، وليس مؤقتا، فليس هناك ضامن لاستئنافها بعد انتخابات الرئاسة، خصوصا إذا نجح الرئيس عبد الفتاح السيسي في الوصول إلى فترته الرئاسية الثالثة، وهو المتوقع وفق البناء السياسي القائم. ويبدو أن الحوار حقق الهدف المبتغى منه لصانعيه، وهو إعطاء إيحاء للرأي العام الدولي بوجود نوع من الحراك السياسي الداخلي، لتقليل الضغوط الدولية باتجاه إحداث إصلاح سياسي وحقوقي فعّال. والمشاهد أن ما يعوق تحقيق أهداف ذلك الحوار ووصوله إلى نتائج ايجابية غياب الإرادة السياسية لتحقيق إصلاحات سياسية جوهرية في بنية النظام، والاكتفاء بحوار شكلي يشغل الرأي العام المحلي والدولي عن مناقشة مستقبل النظام السياسي، ومحاولة إحداث تغيير عميق في المشهد الحالي.
من جانب آخر، التوصيات التي صاغتها جلسات الحوار في المرحلة الأولى كانت شكلية في معظمها، ولم تمسّ جوهر الأزمة السياسية، وبشكل خاص المتعلق منها بإجراء تعديلاتٍ في قانون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بما يحقّق مصداقية أكبر لتلك الانتخابات، وهو ما أكدته الحركة المدنية بتجاهل تلك التوصيات القيام بـ"بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة بشكل عاجل لضمان بدء مرحلة جديدة تسعى للتعامل مع ما يواجه مصر من تحدّيات جسيمة، وبشكل خاص، إطلاق سراح جميع سجناء الرأي واحترام حرية الرأي والتعبير".
وفي المحور الاقتصادي، شكلت معظم التوصيات الصادرة توصيات جزئية وعمومية. ولم يتناول هذا المحور مراجعة سياسات النظام والخاصة بسياسة الإقراض، وبيع الأصول، والسياسات النقدية والمالية، مقتصرا على تناول معوقات الاستثمار المحلي والأجنبي. واقتصرت التوصيات في المجال الحقوقي على الحديث عن إنشاء مفوضية لمناهضة التمييز ولاحترام الحريات الأكاديمية التي شهدت انتهاكات متواصلة في السنوات الأخيرة. ولم يمتدّ إلى ملف سجناء الرأي والحبس الاحتياطي، وهو المطلب الرئيسي للمعارضة.
استفاد النظام المصري من توجيه الحوار إلى تسويق أفكاره الاقتصادية ومحاولة استغلال تلك الجلسات بتمرير تشريعاتٍ يرغب في إصدارها
وإذا حاولنا إجراء نوع من تقييم المرحلة الأولى للحوار، ومكاسب الأطراف المشاركة فيه وخسائرها، يمكن اعتبار النظام الرابح الأكبر من هذه الجلسات، لعدة أسباب أهمها: أولا، تدعيم شرعيته أكثر أمام الخارج، وتخفيف التوجهات الناقدة لسياساته المقيدة للحريات العامة بشكل عام، وإعطاء الايحاء بوجود تغيّرات سياسية إيجابية، يقوم بها من خلال إجراء الحوار والإفراج عن بعض المحبوسين. ثانيا، وجهت تلك الجلسات أنظار الشارع بعيدا عن أي ردود فعل سلبية ضد النظام، بالرغم من تردّي الوضع الاقتصادي الذي يتزايد يوميا، وضيق معيشة القطاع الأكبر من المصريين، وأوقفت القطيعة الكاملة على المستوى الشعبي معه. كما استفاد النظام أيضا بتوجيه الحوار إلى تسويق أفكاره الاقتصادية ومحاولة استغلال تلك الجلسات بتمرير تشريعاتٍ يرغب في اصدارها والنقاش حول أمور فرعية وتهميش وجهات النظر الأخرى.
أما الحركة المدنية والمعارضة بشكل عام فكانت مكاسبها محدودة بشكل كبير، بل بالعكس حاول النظام تقسيم أعضائها وضرب وحدتها والهجوم عليها في أحيان كثيرة، عبر أشخاص المقربين من النظام. ولم يمنع مشاركة الحركة المدنية من اعتقال بعض ممن شاركوا في الحوار ومنهم مؤسّس حركة استقلال المعلمين، محمد زهران، عقب إدلائه بوجهة نظره وحبسه على ذمة التحقيق، ثم اخلاء سبيله بعدها بأيام بتأثير الأصوات التي انتقدت تلك الخطوة.
من المتوقّع أن تجري الانتخابات الرئاسية بدون أي ضمانات حقيقية، سواء التي طلبتها الحركة المدنية أو غيرها
وبالرغم من خروج بعض قوائم المحبوسين بقرارات نيابة أمن الدولة، وهو أمرٌ المفترض أنه يقع ضمن صلاحيات النيابة بموجب القانون، ولا يحتاج لتوجيهات أو إملاءات سياسية، إلا أن هذه القوائم التي تجاوزت الألف بقليل في مقابل القبض على ثلاثة أضعاف المخلى سبيلهم، ومعظمهم من الوجوه غير السياسية التي تطالب الحركة المدنية بالإفراج عنها. كما تم اعتقال بعض المفرج عنهم بعدها بأيام!
وفي النهاية، تلك التوصيات، رغم ضعفها وتركيزها على التفاصيل غير المؤثرة في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس هناك ضمان بتنفيذ أي شيء منها، بعد عرضها على الرئيس، وحتى الإصلاحات المطلوبة في الانتخابات الرئاسية التي عرضها مجلس أمناء الحوار في بيان منفصل عن تلك الوثيقة، ووجهتها إلى الرأي العام، كان من الأجدر توجيهها إلى الرئاسة لتنفيذها بشكل عاجل، بما يضمن إجراء انتخابات تنافسية.
وبنظرة سريعة، لم يكن الحوار مؤثّرا، بأي شكل جوهري، في إجراء أي إصلاحات قانونية للقوانين المنظمة للحرّيات العامة، كما أنه لم ينجح في كبح جماح السياسات الاقتصادية للدولة التي تسير فيها بكل قوة من دون التفكير في مراجعة هذه السياسات ومدى تأثيرها على الطبقات المتوسطة والفقيرة. ومن المتوقّع أن تجري الانتخابات الرئاسية بدون أي ضمانات حقيقية، سواء التي طلبتها الحركة المدنية أو غيرها.