الحملة الفرنسية في سياقات النهوض والمنعطفات التاريخية

21 يوليو 2023

(حمزة بونوة)

+ الخط -

من المسائل المهمة أن نتوقّف على الفكرة التي تتعلق بعالم الأحداث الكبرى والمفصلية التي تطرح نفسها على قضية النهوض والإصلاح والتغيير والتجديد، ذلك أن هذه الفكرة أدّت بنا إلى الوقوف على ما سمّيناها المنعطفات التاريخية، هذه المنعطفات، بخرائطها المختلفة، قدّمت أحداثا ووصفتها من جهة أو زاوية بعينها، وقدّمت من بعد ذلك، وفق هذا التكييف، موقفا حضاريا حول فكرة النهوض وتأثير ذلك الحدث عليها. ورغم أن تلك المسألة ترتبط بعالم الأحداث، إلا أنها، في حقيقة الأمر، لم تكن منفصلة أو متمايزة عن العوالم الأخرى التي اقترحها علينا مالك بن نبي؛ والمتمثلة في عالم الأفكار وعالم الأحداث وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء، وهي عوالم من الأهمية بمكان أن نتعرّف إلى مبانيها وسياقاتها التاريخية، والوقوف على ما تمثله من معانٍ والتعمّق في استنباط المغازي التي تتعلق بهذه المنعطفات.

ولعل المنعطف التاريخي المتعلق بالحملة الفرنسية من أهم ما يطرح في هذا المقام، خصوصا من هذا الفريق الذي أثبت أن الحملة الفرنسية نورٌ حلّ على المنطقة، وتنوير أصاب عالم أفكارها. وفي المقابل، بدا ذلك الإشكال وذلك التقييم من الأمور التي استجلبت جدلا استقطابيا مبكّرا في وصف هذه الحملة وتأثيراتها، بل ونشأ عن تلك الحملة كتاب "وصف مصر" بمجلداته المختلفة في ما قام به علماء تلك الحملة العسكرية. وأيا كان الأمر الذي يتعلق بهذا الشأن، يجب أن نتوقف عند معنى القوّة الكامن في تلك الحملة، وما استخدمته من أسلحة تحاول من خلالها أن توضح الفارق المادّي في عالم الأشياء، وأيضا فإن من عالم الأشخاص هذا كان هؤلاء يتحدثون عن نابليون وفعله بحملته تلك ومنشوراته ورسائله التي خطّها بمناسبة دخوله مصر، وجعل هؤلاء من هذه الصدمة الحضارية مجالا أثّر على عالم الأفكار الذي أثار الفكرة التي تتعلق بالحداثة والتحديث، والأخرى التي تشير إلى التخلّف والفجوة الحضارية اللتين بشّر بهما هذا الحدث في انعطافه التاريخي، واعتبره هؤلاء حدثا فارقا وكاشفا في آن.

وفي حقيقة الأمر، سنجد، في المقابل، أن بعضهم يستدعي في رباعية العوالم تلك وفي سياق الموقف الذي يركّز على إمبريالية الحملة الفرنسية، فيتحدث عن كونها "نارا" تدمّر وتحرق وتقدّم رموزا في محاولة إشعار الطرف الوطني بالدونية والعجز والضعف الواضح في مواجهة هذه الحملة العسكرية، ولكن هؤلاء أكّدوا أيضا، ومن كل طريق على مسألة أساسية تتعلق بعالم الأشياء الذي فتن تلك الحملة الفرنسية، وأراد أن يشعر هؤلاء بتلك الفجوة الحضارية، وهو ما أدّى بمؤرّخين كثيرين إلى أن يقفوا على حال مصر في ذلك العهد، وأنها وجدت مسالك تجديدٍ نابع من داخل الحضارة والثقافة الإسلامية، وأتت الحملة الفرنسية لتشكّل إجهاضا لهذه المحاولة النابعة من نهوض ومحاولتها فرض مسار تابع من جرّاء ترويج حالة الدونية والصدمة الحضارية التي واجهها هؤلاء، إلا أن هؤلاء تمسّكوا، أيضا، بوصفهم هذا "إمبريالية "الحملة الفرنسية والدمار الذي أحدثته في مصر وما خلّفته من قتلى وجرحي في برّ مصر، رغم ما يردّده بعضهم إن الحملة الفرنسية بما ملكته من جيش جرّار، جلبت جيشا من العلماء والمفكّرين يمثل الحضارة الغربية، كما يمثل ثورة الأفكار التي حملتها الثورة الفرنسية.

يجب أن نتوقف عند معنى القوّة الكامن في الحملة الفرنسية على مصر، وما استخدمته من أسلحة تحاول من خلالها أن توضح الفارق المادّي في عالم الأشياء

ومن هنا، ظلّ هؤلاء يتحدّثون عن معاني المقاومة لهذه الحملة المعسكرة، والتي تمثلت في مواجهاتٍ مستمرّة ومقاومة شعبية ممتدّة، وأبرزت عالم مقاومة آخر يتمثل في محمد كريم في الإسكندرية، وكذلك فعل سليمان الحلبي الذي انقض على كليبر. واجه هؤلاء المفتونون بالقوة تلك النماذج المقاومة بأقصى درجات العنف والبطش، حتى يفرضوا وجود هذه الحملة التي أدّت، في النهاية، إلى وجود ارتبط بتلك الحالة الإمبريالية وإلى مقاومة نجحت في دحر تلك الحملة. وفي هذا المقام، سنجد أن هذا الفريق الذي يحتفي بالحملة الفرنسية لم يتمثل فقط في نخبةٍ فكريةٍ أرادت أن تبجّل ذلك الحدث، وتبرز ما اعتقدته من أفكار وحالة تنويرية، بل إن بعضا من النخبة السياسية، وكذلك المثقفة، باتت تحتفل بالاحتلال والغزو، وتقدّر معنى هذه الصدمة الحضارية التي أقلقت وأيقظت وكشفت عن جمود وضعف وعجز وشلل.

هذا الاحتفاء واجهه في النخبة ذاتها سياسيون ومثقفون، في الجانب المقابل، بما يؤكّد على أن هذه الحملة لم تكن، في حقيقة الأمر، إلا "نارا ودمارا"، وليس لها من تأثير في النور الساطع الذي صوّره الفريق الآخر، وأيضا من المثقّفين والأكاديميين من كان يدرس اللغة الفرنسية في الجامعات المصرية، منهم ليلى عنان، التي أكّدت همجية هذه الحملة وأنها لم تمتّ بأي حال إلى عمليات التنوير وحالاته؛ بل كانت عملية "تزوير" كبرى.

لم ينته الجدل إذاً بشأن الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801)، وتفسير دورها في مسألة النهوض، فهناك فريقٌ دائم التأكيد على الدور التنويري الذي لعبته الحملة في نهوض العالمين العربي والإسلامي، وفريق آخر يؤكّد أن الحملة كانت طليعة الاحتلال في المنطقة، وفتحت الباب واسعا أمام القوى الغربية لسلب خيرات الدول، بما فيها الدول العربية والإسلامية وثرواتها، والعمل على استمرار هذه الهيمنة، بقوة السلاح أو بغيرها من القوى الناعمة التي تضمن استمرار احتلالها هذه البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر.

لا تزال عناصر التجدّد الذاتي، والتي تؤكّد على منظومة الفعل النهضوي، في حاجة إلى الخروج من أجواء الحملات العسكرية والفكرية والدعائية

مثّل هذا الاستقطاب المهم الذي بدا في تخيّر الانعطاف لهذا الحدث التاريخي والاختلاف في تكييفه إشكالية حقيقية في تلك المفاهيم الأربعة التي أكّد الكاتب عليها في مقالات سابقة عن تلك الخرائط الفكرية، النهوض، التغيير، الإصلاح، التجديد، وهو ما أورث مواقف تبعية حول ليس فقط في عالم تلك المفاهيم، ولكنه كذلك أثر على مسالكها ومناهجها وتكييفها، وهو أمرٌ يجعلنا نقف عند تلك المنعطفات باعتبارها تشكّل دالة فكرية وحضارية في آن. أما الدالّة الفكرية في هذا المقام فإنها تعود إلى فكرة العلاقة بالغرب، وتكييف هذه العلاقة وأثرها ما بين التأكيد على تلك العلاقة السالبة لحضارة الغرب المفتتنة بغلبتها وقوتها، وبين أمور تتعلق بطبيعة المجتمع وما يحمله من ثقافة تمتّ إلى تاريخه وتراثه وامتداداته الفاعلة المتعلقة بالذاكرة الحضارية في بناء الرؤية والموقف. ومن ناحية الدالة الحضارية، أورث هذا الأمر قدرا من الحيرة والاستقطاب الذي يتعلق بالقضايا الأخرى والثنائيات التي فرضتها الثنائية الأساسية، الغرب والإسلام، والحداثة والتراث، وكل الثنائيات التي استدعيت بعد ذلك.

ضمن هذا الجدل، وجب علينا أن نلحظ ذلك الشأن المتعلق أيضا بمسألة تجديد الخطاب الديني والتي تراوحت في هذا المقام بمحاولة تسويغ هذا التجديد ضمن عمليات تتعلق بحملات عسكرية، سواء تعلق الأمر بالحملة الفرنسية أو الحملة البريطانية التي أدّت إلى احتلال مصر، أو الحملة الأميركية في صور متعدّدة جعلت من فعل التجديد فعلا مأزوما يجعل، في حقيقة الأمر، التجديد والنهوض، وكل ما يتبعهما من مفاهيم مسألة تفضي إلى التبعية للغالب والتغريب. ولا بأس أن يسمّى ذلك تحديثا وحداثة، فهل دائما سنظلّ نستدعي مفهوم النهوض ضمن هذه الأجواء المأزومة والمسمومة، والتي تحيط بحملاتٍ عسكريةٍ، فلا نمارس تجديدا حقيقيا نابعا وأصيلا، ولكنه يظلّ دعوة تحديث تبعي ومفروض. لا تزال عناصر التجدّد الذاتي، والتي تؤكّد على منظومة هذا الفعل النهضوي، في حاجة إلى الخروج من أجواء الحملات العسكرية والفكرية والدعائية إلى أجواء تتعلق بأساليب تجديد حقيقة تقف على الأزمات، وتتعرّف إلى التحدّيات وتقدّم تلك الاستجابات الحقيقية النابعة، لا التابعة.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".