الحماية الدولية للمرأة في مهبّ الريح
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
أصدرت منظمة الأمم المتحدة ترسانة من المواثيق والقرارات التي تهدف إلى تشديد الحماية الدولية للمرأة في أثناء الحروب والصراعات المسلحة الداخلية والخارجية، واتبعت في ذلك مقاربة "جندرية" نسوية، ترتكز على هشاشة المرأة ووضعها الخصوصي في زمني السلم والحرب، وهو وضع ترتّب، وفق هذه المقاربة، عن تقسيم غير متكافئ للأدوار بين المرأة والرجل، وعن هيمنة الرجال على الفضاء العام وحصر دور المرأة في الفضاء الخاص، أو التقليل من شأن مشاركتها في صنع القرار وتحمّل مواقع المسؤولية صلب الأجهزة العمومية للدولة، التمثيلية منها وغيرها، وصلب الهياكل الدولية العالمية والإقليمية، وقد اعتمدت الأمم المتحدة ما يعرف بالمنهج "الجندري" المندمج (Gender Mainstreaming)، ويتمثّل في إدراج الإجراءات والقوانين والتدابير التي تهدف إلى تعزيز مساواة فعلية بين المرأة والرجل والى تدعم حقوقها وتمكينها اقتصاديا وسياسيا صلب مختلف السياسات العمومية والبرامج التي تتبنّاها المنظمة العالمية.
وقد أطلقت الأمم المتحدة منذ 1975 في مكسيكو دورات من المؤتمرات الدولية المخصّصة لدعم وضعية المرأة وتعزيز حقوقها والتصدّي لكل مظاهر الدونية والتهميش والتمييز التي تتعرّض لها، سواء عبر القوانين والإجراءات الحكومية أو عبر مقارعة التقاليد والعادات والممارسات والكليشيهات التي تشرعن العنف المسلط على المرأة والتبعية التي تمارس عليها، واعتبر مؤتمر بكين المنعقد سنة 1995 تتويجا لهذا المسار ومحدّدا لجملة من الالتزامات الدولية التي تتقيّد الدول بتكريسها داخليا، إذ اعتمدت مقاربة إنسانية لحقوق المرأة، تتنزّل في إطار المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، كما دعا هذا المؤتمر إلى تعزيز ثقافة للسلم، تتمحور حول حقوق المرأة وتدعيم مشاركتها في اتخاذ القرار داخل منظومات فضّ النزاعات، وأحدثت الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوليو/ تموز 2010 هيكلا خاصا تابعا للمنظمة UN- Women يهدف إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة عبر تبنّي برامج وسياسات وقواعد تكرس حقوقها الأساسية.
أما عن زمن الحرب، فان الأمم المتحدة وهياكلها انطلقت من معطى أساسي يتمثل في أن تحسين أوضاع المرأة وتحقيق استقلالها اقتصاديا وضمان مشاركتها سياسيا في الحياة العامة يساهم في إحلال السلم والأمن العالميين وفي تحقيق النمو الاقتصادي والازدهار والرقي لشعوب العالم. كما انطلقت من معطى ثانٍ لا يقلّ أهمية عن الأول، أن مظاهر التمييز والعنف المسلّط على المرأة يزداد سوءا واستفحالا في أثناء الحروب، الأمر الذي يستدعي توفير حماية مشدّدة للمرأة، لذلك تبنّى مجلس الأمن جملة من القرارات تهدف إلى حماية المرأة زمن النزاعات المسلحة، لعلّ أهمها القرار عدد 1325 لسنة 2000 الذي وُضع ليحقّق هذا المبتغى عبر إلزام الأطراف المتنازعة بحماية حقوق المرأة، وعبر دعوة الدول الأعضاء إلى تحسين تمثيليتها في كل مستويات اتخاذ القرار للوقاية من النزاعات وفضها، كما حثها على إدماج مقاربة "جندرية" في كل المساعي الأممية للسلم والأمن، وفي التفاوض بشأن تطبيق معاهدات السلم، كما أن نواة صلبة من القواعد الدولية الإلزامية والمطلقة تتضمن الحقوق الأساسية للذات البشرية، كالحق في الحياة واحترام الحُرمة الجسدية ومنع التعذيب والعبودية وتجريم الإبادة الجماعية، تمت مأسستها دوليا عبر تدخّل مجلس الأمن في صورة تهديد أو قطع للأمن والسلم الدوليين، يستدعي تفعيل الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة أو عبر خصّها بنظام قانوني متميّز يجعلها غير قابلة للاستثناء والنقض، وذات طابع إلزامي مطلق وعام.
حصيلة الحرب على غزّة من النساء والأطفال هي الأعظم، حيث بلغ عدد الشهداء من النساء قرابة ثلاثة آلاف ومن الأطفال ما يقارب الأربعة آلاف وخمسمائة
ويخوّل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في إطار ما أوكل إليه من صلاحيات إحداث لجان تحقيق ودورات خاصة في صورة ارتكاب خروقٍ جسيمة لحقوق المرأة زمن الحروب كما تم في قضية إقليم دارفور في السودان، حيث التأمت دورة خاصة للتحقيق في حالات الاغتصاب والعنف الجنسي التي تعرّضت لها المرأة في أثناء النزاع المسلح. أضف إلى ذلك أن القانون الدولي الإنساني خصّ المرأة بحماية خصوصية، كما ورد في البروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لسنة 1949 المتعلقة بقواعد الحرب وبحماية المدنيين، إذ اقتضى صراحة أن تحظى المرأة بحماية خاصة في النزاعات المسلحة الدولية، كما أن الفصل الثالث من اتفاقيات جنيف الأربع يمنع كل اعتداء على حياة الأشخاص وحُرمتهم الجسدية وكل أشكال التعذيب والممارسات المهينة والمحطّة بالكرامة البشرية ويقرّ حماية مشدّدة للسكان المدنيين في النزاعات المسلحة الداخلية وتوفير وسائل الإغاثة الإنسانية لهم، ولعل أهم ما طبع تطوّر القانون الدولي الإنساني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبصورة خاصة منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، إقرار نظام للمسؤولية الجزائية الدولية في صورة ارتكاب جرائم حرب أو جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية في ما يدور من نزاعات مسلحة ذات طابع دولي أو داخلي، وهو نظام يهدف أساسا إلى تجاوز المسؤولية الجنائية للدول بوضع أسس مسؤولية فردية لمرتكبي التجاوزات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، ويرمي، عبر ذلك، إلى التصدّي لظاهرة الإفلات من العقاب وإنشاء منظومة قضائية جنائية دولية فاعلة، تشكّلت إثر إحداث محاكم وقتية وخاصة لمعاقبة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا سابقا ومرتكبي جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، ثم توجت بتركيز المحكمة الجنائية الدولية بمقتضى اتفاقية روما لسنة 1998.
إلا أن هذه المنظومة الجنائية، رغم تبنّيها مقاربات "جندرية"، تظلّ قاصرة عن ردع مجرمي الحرب ومحاسبتهم باعتبارها تخضع لإرادة الدول الأعضاء وتعاونهم ورغبتهم الفعلية في تكريس مسؤولية جزائية دولية، كما أنها لا تنطبق إلا على الدول التي التزمت بما ورد بالاتفاقية المحدثة لها وبقبول الآثار المترتّبة عن ممارسة المحكمة صلاحياتها القضائية داخل أراضيهم وإزاء مواطنيهم، أما الدول غير الأعضاء فإنهم لا يخضعون لقضائها، وهي أيضا قضاء مكمّل للقضاء الداخلي وليست مستقلة عنه، بحيث أنها لا تقبل التعهّد بالجرائم التي تم تتبع مرتكبيها من الأجهزة القضائية المختصة للدول. أضف إلى ذلك أنها محكمة ترزح تحت وطأة التبعية تجاه مجلس الأمن الذي يمكن أن يعرقل عملها لخدمة حسابات سياسية وأمنية تستدعيها مصالح الدول العظمى المتمتّعة بحقّ النقض (الفيتو)، ما يجعلها محكمة تابعة لمجلس الأمن وخاضعة لرقابته، ويحدّ بذلك من استقلاليتها. فما ضرّ مجلس الأمن، إن كان عاجزا عن تفعيل الباب السابع منه، أن يطلُب من المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية التعهد وفقا للصلاحيات التي تمنحها إياه اتفاقية روما بفتح تحقيق في الجرائم التي تُرتكب يوميا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي جرائم تشكّل تهديدا فعليا وخطيرا للأمن والسلم الدوليين، نظرا إلى إمكانية اتساع رقعتها لتشمل منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وباعتبار أن المرأة والطفل اللذين يُفترض أن يتمتّعا بحماية خاصة ومشدّدة زمن الحروب هما الجزء الأكبر من ضحاياها والأكثر تضرّرا منها؟
لا تنفصل خطط استهداف النساء والأطفال وسياسات التهجير القسري إلى جنوب غزّة، ومن ثمة إلى الدول المجاورة، بعضها عن بعض
هذا هو السؤال المحوري الذي يطرح اليوم على مجلس الأمن وعلى مختلف هياكل المنظمة الأممية وأجهزتها التي تهدف إلى إقرار السلم والأمن على وجه الأرض، فهي ترى بأم أعين مراقبيها ما يُرتكب من مجازر وانتهاكات جسيمة للحقوق الأساسية والخاصة للمرأة والطفل في قطاع غزّة وعلى عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنها اكتفت بقرار يتيم اتخذته الجمعية العامة للأمم العامة لوقف إطلاق النار في غزّة، قرار جرى تبنّيه أمام شلل مجلس الأمن وقصوره المفتعل عن إصدار موقف ٍمشرّفٍ بوقف الحرب العشواء التي يقودها الكيان الصهيوني على شعبٍ أعزل، وكأن هذه الجمعية تُخلي مسؤوليتها بهذا القرار الذي ولد وقبر في اليوم نفسه، وهي تدرك جيدا أن إسرائيل لا تعترف بها، ولم تمتثل يوما لقراراتها، وأن مصير قرارها سيكون كسابقيه من مقرّراتها المتعلقة بتسوية القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال الصهيوني وبحقّ العودة للاجئين، كما أن حصيلة الحرب على غزّة من النساء والأطفال هي الأعظم، حيث بلغ عدد الشهداء من النساء قرابة ثلاثة آلاف ومن الأطفال ما يقارب الأربعة آلاف وخمسمائة، و تمثل نسبة النساء والأطفال أكثر من 70% من جملة ضحايا الحرب وشهدائها. وترتقي هذه الأرقام المفزعة إلى مستوى جرائم التطهير العرقي، لكنها لم تحرّك سواكن مجلس الأمن وغيره من القوى الدولية الفاعلة التي ساهمت في جعل إسرائيل كيانا فوق الأمم، يطغى على كل الدول والمنظومات الأممية.
لا تنفصل خطط استهداف النساء والأطفال وسياسات التهجير القسري إلى جنوب غزّة، ومن ثمة إلى الدول المجاورة، بعضها عن بعض، فالمرأة بوصفها منبعا للحياة وحاضنة للأطفال مستهدفة بصورة قصدية وعن سبق إصرار وترصد من الكيان الصهيوني. ولا تقتصر الحرب التي يشنها على قطاع غزّة على العسكرة وقوة السلاح والعتاد، بل تمتد إلى التجويع والتشريد والتنكيل الذي يتعرّض له الأطفال والنساء، ويهدف إلى استئصال جذور الحياة والإخصاب والإنجاب. ويدرك الكيان الصهيوني أن السلاح الأخطر من الأنفاق ومسيّرات الزواري وقذائف ياسين التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية هو القدرة على الحياة بعد الموت، وعلى البعث بعد الفناء، وعلى توالد المقاومة وتوارثها عبر أجيال متعاقبة أشدّ إيمانا وصلابة وثباتا على الدفاع عن الأرض المسلوبة والحقّ المصادر من الأشقاء قبل الأعداء.
المرأة والطفل اللذان يُفترض أن يتمتّعا بحماية خاصة ومشدّدة زمن الحروب هما الجزء الأكبر من ضحاياها والأكثر تضرّراً منها
وحريُّ بنا طرح تساؤل ثان عما سيكون موقف مجلس الأمن والمجتمع الدولي لو كان هذا العدد المهول والمرعب من الضحايا النساء والأطفال من ذوي الجنسية الأميركية أو الإسرائيلية أو ينتمي لإحدى الدول الأوروبية؟ فهل سيتّحد العالم أجمعه لوقف حد للمجازر وحرب الإبادة الجماعية التي تُشن في حق الأطفال والنساء، كما طالب بذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القمة العربية الإسلامية المنعقدة يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مستنجدا بـ"العالم الحرّ"، ومقرّا ضمنيا بعجز الأنظمة العربية واكتفائها بالتنديد والتشهير والاستنكار وتلكؤها عن اتّخاذ إجراءات عملية للضغط والردع، تمتلكها، لكنها لا تجرُؤ على تفعيلها، بل تجبن حتى عن التلويح باستخدامها؟
لو كان المستهدف هي المرأة الأميركية أو الفرنسية أو البريطانية أو الإسرائيلية، فحتما سيكون الأمر مختلفا وستكون لغة الأرقام مختلفة ومزدوجة، وستكون للموت والتنكيل معان وتبعات أخرى، فكل رقم عندهم هو اسم وكيان وتجربة إنسانية فريدة من نوعها وترسانة من الحقوق والامتيازات، في حين ستظلّ ملحمة المرأة الفلسطينية التي تحتضن طفلها شاهدة على بشاعة هذا العالم الذي نعيشه، وعلى اغترابنا عنه، نحن الشعوب العربية والإسلامية التي لا تعدو أن تكون في حساباته سوى أرقام من دون ذوات ومن دون تاريخ أو حاضر أو ذاكرة ومن دون أهل أو عشيرة، انتزعت إنسانيتها وسوّيت بغيرها من الكائنات الحية غير البشرية.
لذلك نحن أمام خيارين: القبول بهذا الوضع والتطبيع معه، كما طبّعت بعض أنظمتنا الرسمية مع الكيان الصهيوني، ونصبح بذلك جزءا منه ونتعايش معه، منقوصي الكرامة والإنسانية، أو أن نسعى إلى أن نكون فاعلين في إقرار مقارباتٍ جديدة للعلاقات الدولية، ترتكز على الحرية والانعتاق من براثن نظام عالمي متداع ومستبدّ ومنهار أخلاقيا وقيميا نحو نظام أكثر عدالة وإنسانية وتحرّرا.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية