الحكومة الثالثة واختلال الوظيفة التشريعية في ليبيا

07 ديسمبر 2022

ليبيون يتظاهرون في طرابلس مطالبين بالانتخابات واحترام الدستور (11/2/2022/ فرانس برس)

+ الخط -

مع فشل الانتخابات في ليبيا، ديسمبر/ كانون الأول 2021، ظهرت توجهات للبحث عن بدائل لشكل السلطة في المرحلة الانتقالية. وقد بدا انشغال رئيسي مجلسي النواب والأعلى للدولة ببناء مسار مشترك لإدارة الشؤون السياسية والتشريعية. عانت المراحل الانتقالية من ارتباط تغير تموضع الفاعلين المحليين بالإطاحة بالقواعد القائمة وإعادة رسم العلاقات السياسية، ولذلك، تبدو أهمية تحليل سياقات تحرك رئيسي مجلسي النواب والدولة وفرصة تشكيل حكومة جديدة، وعلى الرغم من تعدد العوامل الداخلية والخارجية، يركز التناول على دور المجلسين في صياغة المشهد السياسي.

وقد أرست اجتماعات المغرب ومصر مساحة من الحوار بين المجلسين، دارت في معظمها حول كيفية الترتيب لمرحلة ما بعد خريطة الطريق. وفي سلسلة من الاجتماعات تلاقت مع مقترحات عبد الله باتيلي، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، لتكوين مسار جديد للحوار السياسي، غير أن اعتذاره بشكل مفاجئ عن حضور الاجتماع، يكشف عن انفراط القدرة على التقاط طرف الحل السياسي. وفي هذا السياق، برزت أهمية اجتماع الزنتان (غرب ليبيا)، في 4 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، غير أن عدم انعقاده يُثير النقاش بشأن جدارة الجهة التشريعية برعاية الأمم المتحدة في تنفيذ تطلعاتها لتغيير الحكومة.

وعلى مدى لقاءات جرت في المغرب ومصر على مدى عام 2022، تشكلت ملامح العلاقة بين الرئيسين وخريطة القضايا المتوقعة، ولم تنشغل هذه الاجتماعات بتكوين خطة للانتقال السياسي بقدر ما كان اهتمامها باقتراح تسويات لتقاسم النفوذ في المؤسسات العامة، وفي هذا السياق، انتهى اجتماع الرباط/ المغرب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بدون أفق واضح للتحرك السياسي، حيث اكتفى بإثارة مشكلتي المناصب السيادية وإقصاء حكومة الوحدة من دون النظر في تطوير المسار الدستوري والاكتفاء بالبحث في صيغة دستورية انتقالية لا تزال نقاطها الأساسية (معايير الترشيح للانتخابات) محل خلافٍ واسعٍ.

وعلى الرغم من أولوية الانتخابات، انشغلت الاجتماعات بتغيير حكومة الوحدة الوطنية قبل نهاية العام الجاري. وظهر الحديث عن الحكومة الثالثة أولوية حلاً بديلاً لإخفاق محاولات تمكين الحكومة (فتحي باشاغا) في السلطة، سواء عبر تَسَلم مقراتها في طرابلس أو الحصول على اعتراف دولي وتشغيل مقرات الحكومة في سرت أو بنغازي، حيث فشلت محاولتان لدخول العاصمة. ولذلك، اتجه المجلسان للبحث عن بدائل أخرى، انحصرت في تشكيل حكومة جديدة وتغيير شاغلي المناصب السيادية، ليبدوا كعملية إعادة هيكلة موازية كتلك التي أجرتها حكومة الوحدة الوطنية خلال العام الجاري.

وبشكل عام، تكشف صورة اجتماع الرباط عن اهتزاز نتائج محادثات رئيسي المجلسين، وبينما تكلم عقيلة صالح (ممثل السلطة التشريعية)، في عموميات عن التوافق وانعقاد الاجتماع، تناول المشري (ممثل المجلس الاستشاري)، النقاط الأساسية للاجتماع. وبعد وقت قصير ظهر اختلاف بين المسؤولَين في تحديد ما تم التلاقي عليه. وقد اقتضت هذه الحالة الظهور على وسائل الإعلام لتوضيح وجهات نظر متفاوتة تجاه أجندة اللقاء.

جاءت هذه التطورات متزامنة مع اتساع الخلافات حول تشكيل حكومة جديدة، فبينما أعلن رئيسا المجلسين تبينهما للفكرة، اعتبر رئيس حكومة الوحدة الوطنية الأمر خارج اختصاصهما، وذلك استناداً لاعتراف مجلس الأمن بحكومة الوحدة الوطنية حتى إجراء الانتخابات. لم يتوقف الجدال عند الرد القانوني، بل ظهرت اتهامات بالفساد العائلي في مستوى من الخلافات يزيد من حالة التحدي السياسي لتداخل العوامل الشخصية والسياسية.

ظهر الحديث عن الحكومة الثالثة كأولوية حلاً بديلاً لإخفاق محاولات تمكين حكومة فتحي باشاغا في السلطة

وبشكل عام، يتوقف الوصول لحكومة جديدة على مدى تماسك وتساند المجلسين. ولذلك، فإنه بالنظر لجدول الأعمال، يمكن ملاحظة وجود أعباء لا تتناسب مع وضع المجلسين. في العامين الماضيين، شهد الوضع السياسي لرئيس مجلس النواب تراجعاً ملموساً عندما خسر جولتين، كانت الأولى عدم انتخابه رئيساً للمجلس الرئاسي في مارس/ آذار الماضي، وخسارة معركة سحب الثقة من حكومة الوحدة، وتمثلت الثانية في عدم قدرته على تمكين حكومة اختارها، وهذا ما يضعه في موقفٍ لا يُحسد عليه يدفعه لاتخاذ خطوة جريئة للتموضع السياسي مرة أخرى. وعلى أي حال، يعمل المجلسان ضمن ترتيبات الأمم المتحدة، تمثلت في اعتبار ملتقى الحوار السياسي سلطة قانونية بديلة لمجلس النواب، وتم تدعيمها بقرار مجلس الأمن (2627) باستمرار خريطة الطريق حتى انتخاب حكومة جديدة، وهو ما يفرض قيوداً على تغيير الحكومة الحالية.

وعلى المستوى العام، يُعاني المجلسان من التداعي والتفكك، فقد انخفضت صلاحياتهما بوجود لجنة الحوار والقرار 2627 واتساع صلاحيات السلطة التنفيذية. ووفق خريطة الطريق، تكون صلاحية تشكيل الحكومة مُشتركة ما بين المجلسين ولجنة "ملتقى الحوار السياسي"، وبالتالي، فإنه في ظل مشكلات توافر النصاب السياسي اللازم لتشكيل الحكومة، يواجه المجلسان تحدي المصداقية، سواء بسبب عيوب التصويت أو انفراد الرئيسين باتخاذ قرارات قبل عرضها. وبجانب انصراف قسم من النواب لوظائف عامة والمقاطعة أو الاستقالة، فمن خلال متابعة اتجاهات أعضاء مجلس الدولة، يمكن ملاحظة انخفاض الالتزام المؤسسي وتشكك مواقف كثير من أعضائه. ويرسخ افتقار المجلسين للحاضنة الاجتماعية والانقسام السياسي حولهما وقف محاولات عقد اجتماع مشترك.

ومن القيود الإضافية على تضامن المجلسين، ما يتعلق بتذبذب مواقف مجلس الدولةً عندما أبدى انحيازه الواضح للتعديل الدستوري الثاني عشر والتوجه نحو تشكيل حكومة جديدة، غير أنه ما لبث أن تراجع (المشري) تحت تأثير خلافات بين الأعضاء لما اعتبروه تقارباً مع خليفة حفتر، وذلك باعتباره خروجاً على النسق السياسي لوريث المؤتمر الوطني وثورة فبراير/ شباط (المجلس الأعلى للدولة). وقد ظلت هذه المراوحة مُتأثرة بتغير التركيبة السياسية للمجلس وخلافه مع حكومة الوحدة في بعض السياسات، ومنها مذكرة التفاهم مع تركيا، وفي ظل تشتت اتجاهات أعضائه يصعب توقع مواقفه المستقبلية.

في الحقيقة، يواجه المجلسان تداعيات بقاء شاغلي المناصب العامة لفترات أطول من الحكومات، وخصوصاً في تكوين دوائر نفوذ، سواء في ما يتعلق بشبكات التَصرف في الأموال العامة أو بتطوير الولاءات في المؤسسات وخارجها، وتبدو المشكلة في مواجهة المجلسين أعباءً تفوق قدراتهما، ليس في ما يتعلق بانخفاض الرغبة في التصدي لوضع خليفة حفتر والتردد في تعديل إدارة السلطة النقدية. قبل أيام تم عزل علي الحبري، نائب رئيس المصرف المركزي، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لخلافات مع نافذين في الجيش بشرق ليبيا، وليس لقوة مجلس النواب، فهذا المنصب لم يكن ضمن المناقشات حول المناصب السيادية، بل على العكس كان شاغله مُرشحاً لتولي رئاسة مجلس المصرف المركزي.

تسببت سيادة معيار الحصص على الاختيار الموضوعي في ظهور حكومات كثيرة العدد وغير متجانسة

ولذلك، لم يكن مفهوماً دخول المجلسين في ملفات السلطة العامة ومُزاحمتها للحل الدستوري، بحيث صار الخلاف حول المناصب العامة أكثر حدة من مستقبل الدولة والحُكم، وهو ما يعكس اختلال النظر للاحتياجات الحقيقية، وهنا يظهر سلوك المجلسين في صورة أقرب للانعكاس الوظيفي، فبينما يملكان صلاحية إصدار التشريعات الانتخابية، يُراكم انشغالهما بقضايا أخرى الحلقة المُفرغة للأزمة النخبوية وتدوير الوضع الراهن بطرق لا تُصلِح الدولة أو المجتمع. فخلال الفترة الماضية، غاب الحديث عن مصير مشروع الدستور الصادر في يوليو/ تموز 2017، وهو ما يشكل هدراً لدور الهيئة التأسيسية (جهة دستورية سيادية)، والأطر الدستورية اللاحقة والتي تشكلت من الاتفاق السياسي الليبي (2015)، وخريطة المرحلة التمهيدية (2020).

وحتى الوقت الراهن، لم تستطع لجان الحوار السابقة احتواء المشكلات أو تجميع قدرات الدولة، فقد بدت تجارب لجان الحوار السياسي نقطة ضعف ظاهرة في السياسة الليبية، فمنذ مشروعات الحوار الوطني في 2013، اقتصرت الأفكار والتحرك السياسي على تكوين لجان دون ظهير سياسي أو عسكري، ما أدى للإطاحة بها وتجاوز مقرراتها، وبالتالي، فإن إطلاق لجنة أخرى، سوف يؤدي للنتائج نفسها، وخصوصاً مع افتقارها للسلطة الفعلية واستمرار مجلسي النواب والدولة بصلاحياتهما. فعلى مدى فترة الاتفاق السياسي، تسببت سيادة معيار الحصص على الاختيار الموضوعي في ظهور حكومات كثيرة العدد وغير متجانسة. وبالنظر لهيمنة تصنيف ليبيا لثلاثة أقاليم، ستواجه محاولات تشكيل حكومة أخرى القيود السابقة ذاتها، وخصوصاً طغيان العوامل الشكلية والتنافس العائلي/ القبلي على التمثيل الحكومي.

وبالنظر لمسار بناء وهدم الحكومات، يمكن الاقتراب من آثار ظهور حكومة جديدة على الوضع السياسي والعلاقة بين الفواعل السياسية، فمنذ يوليو/ تموز 2012، شهدت ليبيا تشكيل ثماني حكومات مؤقتة، وباستثناء الثلاث الأولى، مصطفى أبو شاقور، علي زيدان وعبد الله الثني، شهدت الحكومات الأخرى نزاعاً حول مشروعيتها، بحيث ظلت تخضع لمزايدات محلية ودولية حالت دون الاستقرار. وتشير أسماء الحكومات لطبيعة العلاقات أثناء الأزمات واهتزاز الوضع الدستوري. فقد جاء تشكيل حكومة الإنقاذ الوطني في سياق اندلاع الصراع المسلح في يونيو/ حزيران 2014، وكما كان تشكيل حكومة الوفاق الوطني تعبيراً عن الرغبة في معالجة الانقسامات بين حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة في شرق ليبيا. وأخيراً، تم تكوين حكومة الوحدة الوطنية استجابة لتحديات الانقسام القائم جغرافياً ومؤسسياً نتيجة اندلاع حرب أهلية في إبريل/ نيسان 2019. وعلى الرغم من كل هذه المعضلات، ظلت أفكار التنقل من حكومة لأخرى سطحية وغير قادرة على جلب الاستقرار، وبينما كان إصدار الدستور والانتخابات المهام الأساسية للحكومات، فقد انشغلت أغلبيتها بتوسيع الصلاحيات وتطوير الصراع السياسي.

ظلت أفكار التنقل من حكومة لأخرى سطحية وغير قادرة على جلب الاستقرار

وكسياق عام، يتوقف تشكيل الحكومة على عاملين، يتمثل الأول في توافر مناخ للاتفاق على خريطة طريق تحظى بالاعتراف الدولي. وفي هذا السياق، وفيما يتجه رئيسا مجلسي النواب والدولة لتوسيع النقاش حول تشكيل حكومة ومجلس رئاسي، يستقر الاعتراف الدولي والقبول الإقليمي بهما. ويكشف حضور محمد المنفي للقمة العربية وزيارة عبد الحميد الدبيبة الواسعة لتونس في ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بجانب مشاهدات أخرى، عن تصاعد فرص بقائها، وخصوصاً أن الظروف الحالية لا تتماثل مع وضع حكومة الوفاق بعد انتهاء الحرب ضدها في إبريل 2020، حيث تلاقت العوامل الداخلية والخارجية على بدء مرحلة جديدة لاستيعاب آثار الحرب الأهلية وامتصاص التوتر بين الأطراف المختلفة. أما الثاني، فيتعلق بتفكك القدرات السياسية للفاعلين وتنافرها، حيث لا تتوافر كتلة حرجة لإنفاذ الخيارات السياسية. وفي هذا السياق، يظل العامل الدولي مُهماً في دفع مسارات التوافق، وخصوصاً مع تباعد مواقف الليبيين والانهماك في دوائر تبادل المواقع.

من الوجهة الواقعية، لا توفر الظروف الراهنة أفقاً لإنجاز المجلسين مهام مشتركة، حيث ينطوي الوضع الدستوري في ليبيا على تناقضات رهيبة، لم تتوقف عند اختلاف المرجعية القانونية. ففي حين تَشكّل مجلس الدولة وفق الاتفاق السياسي، لم يعترف مجلس النواب به وتم التأكيد على احتكار الصلاحية التشريعية. قد يساعدنا هذا السياق على فهم استمرار الخلاف بين الجهتين والتوجه نحو إثارة نقاط الخلاف، بحيث يمكن تفسير الاتصالات الجارية بحالة الضرورة السياسية لمواجهة خصم مشترك (حكومة الوحدة)، وبالتالي، تبدو ضرورية مراجعة المجلسين أولويات الدور السياسي وخفض التأثر بالعوامل الخارجية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .