"الحشّاشين" بين تزييف التاريخ وتسييس الحاضر
تستهوي الدراما التاريخية في كلّ المجتمعات الجمهور العريض، لأنّها تقدّم مادةً تلفزيونيةً بعيدة عن الدراما الاجتماعية الكثيرة والمتنوّعة والمُستهلَكة. ولأنّها، أيضا، تتحدّث عن مرحلةٍ تاريخيةٍ غيرَ معروفةٍ لأغلبية الجمهور، ومن هنا يلجأ صنّاع الدراما التلفزيونية إلى الأعمال التاريخية لتحقيق أكبر قدرٍ من المشاهدة، ومن ثمّ، النجاح (حقّق مسلسل "الحشّاشين" أكبر نسبة مشاهدة في العالم العربي في موسم رمضان المنقضي).
ويلجأ صنّاع الدراما عادة إلى الأعمال التاريخية لأسباب عدّة، أهمها: أولاً، استعراض مرحلة مهمّة من تاريخ المجتمعات، ما زالت إشكالياتها وتداعياتها ومفاعيلها تُؤثّر في وعي البشر في الحاضر، وبهذا، فإنّ العمل التاريخي الدرامي مُطالب بتقديم معالجةٍ لهذه المرحلة تُسهم في التخفيف من وطأتها السلبية على الحاضر، لا على التاريخ، وإنما بالتركيز على تفاصيل وأبعاد تنعكس إيجاباً على الحاضر بحيث تُسهم في الوحدة الاجتماعية لا التفرقة. هنا، تُصبح الدراما من أدوات البناء الاجتماعي والثقافي.
ثانيا، يُلجأ إلى التاريخ عبر الدراما بهدف تسليط الضوء على مرحلة تاريخية مجيدة في تاريخ الشعوب، لا من أجل استرضاء الغرائز النفسية بالهروب من الواقع الحالي، وإنّما من أجل إثارة الهمم عبرَ ذاكرةٍ تاريخيةٍ مُضيئةٍ. وبهذا المعنى، فإنّ العودة إلى الأصول هي عودة إلى التاريخ من أجل الحاضر لا من أجل الماضي ذاته. إنّنا هنا أمام ما يمكن تسميته قلباً للسيرورة التاريخية.
عمل تلفيقي؛ فلا هو مادةٌ تاريخيةٌ محضة، ولا فانتازيا تاريخية محضة
ثالثا، وكما في الحالة الثانية، يُلجأ إلى التاريخ من أجل الحاضر، لكن لسببٍ مختلفٍ، يتعلّق هنا بمحاولة إجراء إسقاطٍ تاريخي على الحاضر، وعادة ما يحدُث هذا من أجل أخذ العِبَر من التاريخ أو بتصوير الواقع القائم كأنّه جزءٌ من سيرورة تاريخية طويلة تتكرّر بشكل دائم، وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة والشُخوص. ولمّا كانت الدراما التلفزيونية وما تزال، كما السينما والمسرح، أداةً من أدوات الفنّ والثقافة، فإنّ دورها محصورٌ بالضرورة في بناء الوعي وتثقيف الإنسان وتهذيبه، حتى في الحالات التي تُصوّر الواقع أو التاريخ كما هو، مع ما فيه من سلبيات. ولكي ينجح ذلك ويحقّق الأهداف السابقة أعلاه، يجب على العمل الدراميّ التاريخيّ أن يحوز الشروط الأتية:
أولاً، التسلسل التاريخي الصحيح للأحداث. وليس المقصود هنا أن يتحوّل العمل الدرامي إلى عمل "كرونولوجي" (علم التسلسل الزمني) أو "أركيولوجي" (علم الآثار)، وإنّما أنّ الأحداث أو الوقائع التاريخية المهمة يجب أن تُقدّمَ كما حصلت تماماً، وإلا فقدت الأحداث دلالاتها التاريخية، وانعدمت معها القدرة على الاستنباط المعرفيّ للتاريخ. ثانياً، أن يُقدّم العمل ضمن مناخه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والديني واللغوي والمعماري، ومن دون تناسق هذه المعطيات السبعة، يفقد العمل التاريخي هويته، ويتحوّل إلى مجرد أحداثٍ تاريخيةٍ فاقدةٍ لمعناها. ثالثاً، تَقديم الشخصيات التاريخية الرئيسية على حقيقتها، قدر الإمكان، وضمن سياقها الزمني والحضاري، إنّ صحّت الكلمة، من دون تشويه لها. رابعاً، عدم استخدام المادة التاريخية في الأعمال الدرامية من أجل أهداف أيديولوجية سياسية ضيّقة في الحاضر، إذ يجب أن يكون الإسقاطُ التاريخي للحاضر خالياً من أي بعد دوغمائي (وثوقي) يهدف إلى تضليل الوعي العام، خصوصاً عند معظم الجمهور غير المُطّلع، وغير المُمتلِك لأدوات التحليل المعرفية والتاريخية.
ضمن ما تقدّم، يمكن وصف "الحشّاشين" (تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي، وبطولة كريم عبد العزيز بدور حسن الصّباح، وفتحي عبد الوهاب بدور نظام الملك) بأنّه عمل تلفيقي؛ فلا هو مادةٌ تاريخيةٌ محضة، ولا فانتازيا تاريخية محضة. ولا يشفع لصنّاع العمل التنويه في "تتر" المسلسل أنّه "من وحي التاريخ"، فهذه عبارة عامة يُراد منها تحقيق مآرب خاصة تحت عناوين الانتقاء التاريخي، والإسقاط السياسي، والتغيير لمقتضيات الدراما. وإذ كان يحقّ للمؤلف، لمقتضيات الدراما، تناولَ التاريخ ضمن معطيات مُعيّنة، فإنّ شرط ذلك عدم المساس بما هو ثابت تاريخياً.
استخدم مسلسل "الحشّاشين" اللغة المصرية العامية، ما أفقد العمل رصانته وقوته
وضمن الشروط الأربعة (أعلاه) التي يجب أن تتوفّر في الدراما التاريخية، يمكن قول: أولاً، فيما يتعلق بالتسلسل الزمني للأحداث، ذهب الصّباح إلى مصر بحسب كُتب التاريخ بطلب من الداعي الإسماعيلي في العراق وشمال إيران، عبد الملك ابن عطاش، أما المسلسل، فقد أظهر أن غرض الصبّاح أن يحظى بلقاء الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، والتثبّت منه شخصياً من مآل الإمامة من بعده. وإذا كان هذا التفصيل غير مهمّ للمشاهد، فإنّ وصول الصّباح إلى مصر، وهي تعاني من المجاعة فيما عُرف تاريخياً بفترة "الشدّة المستنصرية"، مُخالفٌ للتاريخ، فقد وقعت المجاعة بين عامي 1064 ـ 1071، في حين وصل حسن الصّباح إلى القاهرة عام 1078، أي بعد سبع سنوات من انتهاء المجاعة. ولا يكتفي المسلسل بهذا الخطأ التاريخي، بل جعل فترةً المجاعةِ تمتدّ إلى وفاة المستنصر بالله في عام 1094، الأمر الذي لا يجعل المشاهد قادراً على فهم الدور الذي قام به بدر الدين الجمالي في توحيد الدولة والقضاء على المجاعة من خلال إصلاحه نظام الري، حين أباح الأرض للمزارعين ثلاث سنوات حتى ترفّعت أحوال الفلاحين.
أيضا، غادر الصّباح مصر قبل وفاة المستنصر بالله بنحو 14 عاماً، بعكس ما قدّمه المسلسل الذي عرض وجود الصّباح في مصر في أثناء وفاة المستنصر. وكذلك الأمر فيما يتعلق بعمل الصّباح لدى الدولة السلجوقية أيام نظام الملك، فالكتب التاريخية تؤكّد أنّه عمل لدى الدولة السلجوقية قبل ذهابه إلى مصر، بعكس المسلسل الذي يقدّم ذلك بعد مغادرته مصر.
أخيراً، لم يثبت في التاريخ أن علاقة صداقة قامت بين حسن الصبّاح والشاعر عمر الخيّام والوزير نظام الملك الطوسي، فبين الصبّاح ونظام الملك 20 عاماً، كما أنّ الأول تلقّى تعليمه في مدينة الري (جزء من الجنوب الشرقي لمدينة طهران) في حين تلقى الثاني تعليمه في مدينة نيسابور (مقاطعة خراسان شمالي شرق إيران قرب العاصمة الإقليمية مشهد).
ثانياً، فيما يتعلّق بالمناخ التاريخي، وقع المسلسل في أخطاء عديدة وكبيرة، فبحسب مختصّين، كان من بين الانتقادات صور مآذن مساجد القاهرة على أنها في العصر المملوكي في القرن الحادي عشر، لكن اتضح أنّها ليست لتلك الحقبة. أيضاً، أظهر المسلسل مدينة أصفهان ضمن عمارة مغول الهند وليس العمارة السلجوقية، وفيما يتعلق بقبّة الصخرة، فقد ظهرت في المسلسل مُحطّمة. ووفقاً للأحداث التاريخية، سقطت القبّة الذهبية نتيجةَ صاعقةٍ، وأُعيد بناؤها في عهد الظاهر لإعزاز دين الله بين عامي 1021 ـ 1036، أي قبل مولد حسن الصّباح بعام واحد، وغطّيت القبّة بالرصاص بدلاً من الذهب الأموي، بخلاف ما ظهرت عليه في المسلسل.
العمل التاريخي الدرامي مُطالب بتقديم معالجةٍ بالتركيز على تفاصيل وأبعاد تنعكس إيجاباً على الحاضر بحيث تُسهم في الوحدة الاجتماعية لا التفرقة
على أنّ أهمّ معلم من معالم المناخ التاريخي هو اللغة، إذ استخدم مسلسل "الحشّاشين" اللغة المصرية العامية، ما أفقد العمل رصانته وقوته، خصوصاً أنّ اللغة العاميّة المُستخدمة كانت ركيكة للغاية. وليس مفهوماً لماذا تعتمد الأعمال الدرامية التاريخية اللغة المصرية العاميّة، هل بسبب ضعف الممثلين المصريين تحدّثاً باللغة العربية الفصحى؟ أم أنّ العامية أقرب إلى وجدان المشاهد المصري؟ أم أنّ ذلك كان مقصوداً، لأنّ العمل موجّه إلى المواطن المصري في المقام الأول، وليس إلى المواطن العربي؟
ثالثا، فيما يتعلّق بالشخصيات التاريخية، لم يكن مفهوماً من المسلسل تقديم حس الصّباح ساحراً ولديه قوى خارقة، كما ظهر في مقاطع من المسلسل. على سبيل المثال، مشاهدة سجّان الصّباح للأخير في الحلم، ما أدى بالسجّان إلى تهريبه من السجن.
رابعاً، فيما يتعلق بالإسقاط الأيديولوجي ـ السياسي، بدا العمل ساذجاً ومسيّساً جداً لجهة محاولته الربط بين طائفة الحشاشين الإسماعيلية، وجماعة الإخوان المسلمين بهدف تبيان اعتمادهما منهجا واحدا (الإرهاب). وقد انبرى عدد من الباحثين المصريين، أثناء عرض المسلسل، لتبيان هذه الرابط بالحديث عن أدبيات متشابهة بين طائفة الحشاشين والإسلام السياسي والجماعات المتشددة. وقد استخدم العمل اسم "الحشاشين" دلالةً رمزيةً للإشارة إلى استخدامهم نبات الحشيش مخدّراً للشباب من أجل إضعاف القدرة التفكيرية لديهم والسيطرة عليهم عقلياً، بما يشبه تأثير الإسلام السياسي والحركات الدينية المتشدّدة في وقتنا الحالي، عبر استخدامهما الدين أفيوناً.
لم تحدّثنا كتب التاريخ (ابن عساكر، ابن الأثير، ابن كثير، المقريزي، الطبري، ابن الجوزي، ابن خلدون) أنّ الطائفة النزارية الإسماعيلية كانت توصف بـ "الحشّاشين"، فهذا وصفٌ لاحق جاء في نهاية القرن الـ 13 مع الرحالة ماركو بولو، الذي تحدّث عن حور العين والجنة في قلعة ألموت (حصن جبلي وسط جبال البرز أو جبال الديلم جنوب بحر قزوين في مدينة رود بار بالقرب من نهر شاه ورد، تبعد حوالي 100 كلم عن العاصمة طهران)، ولم يعرفه المؤرّخون العرب، بمن فيهم الجويني الذي أرّخ للحقبة النزارية، والغزالي الذي تصدّى لهم فكرياً في كتبه: "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"، و"القسطاس المستقيم"، و"حُجّة البيان"، والتي وصف فيها الطائفة النزارية بالباطنية.
أعمال درامية، مصرية وسورية بأنواعها أصبحت خلال العقد الأخير وسيلة أداتيّة بيد الأنظمة بشكل فج
سرد الغزالي عشر تسميات للباطنية، تدّعي أنّ لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، لكنه اعتمد اسم التعليمية لأنّها الأكثر ملاءمة لفكر الباطنية في عصره، ولأنّهم قالوا ألّا سبيل إلى أخذ العلوم إلا بالتعليم. والحركة الإسماعيلية التي يشير الغزالي إليها بالباطنية، لم تكن تسمّي نفسها آنذاك بهذه التسمية (الباطنية)، وإنما كانوا يسمّون أنفسهم في إيران "الدعوة الجديدة"، في إشارة إلى الدعوة الإسماعيلية الجديدة التي نشأت مع حسن الصّباح. اعتمد المسلسل الرواية الغربية (ماركو بولو) وأهمل المصادر التاريخية الإسلامية التي قالت إنّ سبب التسمية يعود إلى أنّهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم. ثمّة فارق شاسع وجوهري بين أن يتم اللجوء إلى طائفة "الحشّاشين" قصةً خياليةً من وحي العقل، وبين استخدامها مادةً تاريخية حقيقية من أجل توجيه رسالة سياسيّة مُضلّلة للجمهور، وفي هذا ما يثير الانتباه إلى أنّ الأعمال الدرامية، المصرية والسورية بأنواعها، أصبحت خلال العقد الأخير وسيلة أداتيّة بيد الأنظمة بشكل فجّ.
على صعيد النقد الفنّي، تقع الأعمال الدرامية التاريخية المصرية دائماً في فخّ الإكثار من المقاطع الاجتماعية التي لا تحمل في أغلبها أي مضامين تاريخية، سواء من الناحية الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية، فضلاً عن فقدانها للبعد القصصي المشوق، في حين تُهمل تفاصيل مهمة في البيئة الجيواستراتيجية للوقائع التاريخية موضع الاهتمام.
كما كان اختيار كريم عبد العزيز لبطولة العمل غير موفّق، إذ افتقد الطاقة اللازمة بحكم طبيعة الشخصية التي يُجسّدها، فكانت شخصيته مملّة في أحيانٍ كثيرة، بخلاف فتحي عبد الوهاب الذي جسّد دور نظام الملك، وعمر الشناوي في دور السلطان باركياروق بن ملكشاه.