الحزب الذي هجره مريدوه
كان على حزب البعث أن يصبح موضةً يمكن ارتداؤها في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته بلا مشقّةٍ، ثمّ وفي الثمانينيات والتسعينيات صار يشار بالبنان وبالريبة أيضاً إلى كل من لا يتمتع بتسريحة شعر عقائدية يجري تصفيفها في صالونات الفرق الحزبية المنتشرة في أرجاء البلد العقائدي للغاية، فلم تجد حميدة طاهر مناصاً سوى أن تهب جسدها إلى عملية انتحارية في جنوب لبنان عام 1985، لتكون شهيدة حزب البعث الوحيدة، وربما ردّاً عقائديّاً بعثيّاً على العملية الانتحارية التي أجرتها بعناية فائقة سناء محيدلي لصالح الحزب السوري القومي الاجتماعي، في جنوب لبنان أيضاً، وفي العام نفسه.
لكنّ الأفكار العقائديّة المتدفّقة إلى الأحزاب السورية بعد الاستقلال لم تنجح في إنجاز مونوغرافيات لائقة تعيد من خلالها كتابة تاريخ المدينة والريف على هواها، باستثناء حزب البعث، إذ وحده من فعل ذلك مستسيغاً إخافة التاريخ السوري المعاصر، وهدمه، وتحييده إلى ركام غير منظور، وطمس مكوّناته التي تنتمي إلى ما قبل العام 1963، حين تبدأ مونوغرافيا "البعث" الشائقة منذ ذاك التاريخ، وقبل كل شيء توجّب على الحزب الصاعد إلى السلطة تأثيث المدينة العقائدية، وتأثيث الريف العقائدي بما يلزم من ديكوراتٍ وإكسسواراتٍ تقدّم مديحاً بصرياً للحزب الذي صار هو الدولة، وصارت عقيدته هي القانون.
لقد أنكر حزب البعث سيرة المدنيّة السياسية تماماً، ولم يشر يوماً إلى البرجوازية السورية التي صاغتها، وإنما كان يحطُّ من شأنها على الدوام، ويصفها بالطبقة الطفيلية المعادية لمصالح الجماهير الكادحة، وكم كانت أدبيّاته الحزبية ومنطلقاته النظرية تطفح بمصطلح الجماهير الكادحة. وبهذا، كان يلوكُ بروباغندا سمجة، غرضها تمجيده من جهة، وتصفية من اعتبرهم خصومه التاريخيين، أي البرجوازية المحلية ذات النفوذ السياسي قبيل الاستقلال وبعده من جهة أخرى، فلم يتردّد كثيراً في سجن السرديات السياسية التي لم يكن هو فيها، أو جزءاً منها. حزبٌ عصابيّ أراد، منذ البداية، ضمان الولاء له، ليس فقط ولاء جماهيره، وإنما ولاء تاريخ البلاد المعاصر، وسعى إلى ذلك من خلال تجنيد ولاء مناهجه الدراسية ذات المحتوى العقائدي، أي أنه أصرَّ على مونوغرافيا مزوّرة تناسب مأزقه السلطوي باعتباره الحزب القائد للدولة والمجتمع، وتنحاز بعيوبها التكوينيّة إلى ضفة الضباط المخلّصين القادمين من الأرياف الكسولة، الهامشيّة، الغائبة عن الفعل السياسي وتجلّياته، مثل صلاح جديد وحافظ الأسد، وتتنكّر ببراعة لتاريخ البرجوازية السورية، والأدوار الدراماتيكيّة التي لعبها الآباء المؤسّسون للجمهورية الأولى، ومنهم تاج الدين الحسيني، وهاشم الأتاسي، ومحمد العابد، وخالد العظم، وشكري القوتلي.
مثّل حزب البعث الانتهازية السياسية بكلّ استنطاقاتها الممكنة
وبذلك، يكون حزب البعث قد مثّل الانتهازية السياسية بكل استنطاقاتها الممكنة، بدءاً بانقلاب عام 1963 ضد شرعية الرئيس ناظم القدسي، وحكومة خالد العظم، مروراً بانقلاب عام 1966 ضد مؤسّسي حزب البعث الأوائل، أي حرسه القديم من ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ومنيف الرزاز، وصولاً إلى انقلاب عام 1970 الذي جاء بحافظ الأسد إلى أعلى هرم السلطة، مُزيحاً به رفيق دربه صلاح جديد، والرئيس الشكليّ للبلاد في حينها نور الدين الأتاسي. ومع آخر الانقلابات العسكرية في سورية، كان بمقدور الأسد أن يهيمن فعلياً على تاريخ البلاد، تلك المونوغرافيا التي تم بثّها ثلاثة عقود وفق معايير ملحقة بقائد الحزب القائد.
لاحقاً، نمت المدينة الرمادية الهجينة بكل رثاثتها، وتم هجران الريف الزراعي بأدواته الإنتاجية المتواضعة. ومع ذلك، لم يجد المطرب اللبناني مروان محفوظ حَرجاً من أن يغني "ودّي المراكب على المينا، وقود السفينة يا معلم"، والتي لحّنها له سهيل عرفة، كما لم تجد ميادة الحناوي ما يضرُّ فيما لو غنّت "يا حافظ العهد، يا طلّاع ألوية" تلك التي رفض أن يلحّنها بليغ حمدي، فتحمّس لابتكار لحنها صفوان بهلون، وهذا ما جعل البلاد أيضاً تجلس مخمورةً في حانات الظواهر الصوتيّة والبصرية، أي وقوعها تحت سطوة السرد الصوتي والبصري العقائدي، سواء في الشعارات التي تمجّد "البعث" وقائده، والتي كانت تقرفص فوق الرؤوس، أو تلتصق بأسوار المدارس والمعامل والدوائر الحكومية وملاعب كرة القدم والمداجن، أو تُكتب داخل المناهج المدرسية لمادة التربية القومية، أو تُغنّى باكراً وتُبثُّ بنشوة من إذاعة دمشق، و"الجماهير الكادحة" تتوجّه على إيقاعها الرصين إلى المعامل والمدارس والوظائف الحكومية، أو تُسمع في خطابات حافظ الأسد، بل إن خطاباته تلك صارت نصوصاً يمكن الاستشهاد بها، لإثبات فكرةٍ ما، أو دحض صحّةِ أخرى.
استطاع نظام البعث الحاكم في سورية تدليس مونوغرافيا مزوّرة عن الثورة، وعن الأماكن الثائرة عليه، يريد كتابة تاريخ المكان على هواه مجدداً
دفع ذلك كله عجلات "البعث" سريعاً على طريق التحوّل من حزبٍ إلى وعاء، ومن أيديولوجيا إلى سجن عقائدي مصمت التكوين. وعلى هدى هذا التحوّل ووحيه، سارت المنظمّات والنقابات، وسرعان ما تحوّلت إلى أوعية يقوم النظام السياسي بملئها بشرياً، وإحكام الغطاء عليها، وإقفالها بإحكام، فلم يعد التميّز الفردي والاختلاف مطلوباً، بل كان يعدّ بمثابة العثرة أو الجناية التي تستوجب القصاص. ومن خلال ذاك التنميط الممنهج استطاع نظام البعث اغتيال المجتمع والسياسة معاً، واستبدالهما بنموذج القطيع البشري المتجانس العاطل من الحراك، فصارت سورية مكاناً رحباً للاستعباد تديره دولة بوليسية مرعبة. وقد ظهر هذا الإرث الثقيل جليّاً بعد العام 2011 من خلال الحمّامات الساخنة للإلغاء والإبادة والتهجير التي مارسها النظام السياسي بحقّ المناطق الثائرة عليه.
ومجدّداً استطاع نظام البعث الحاكم تدليس مونوغرافيا مزوّرة عن الثورة، وعن الأماكن الثائرة عليه، يريد كتابة تاريخ المكان على هواه مجدّداً، وإضافة ما يشاء، وحذف ما يشاء. ومع هذا، لم يعد ذلك الحزب القادر على مواصلة بثّه العقائدي على التردّد الصوتي السابق الذي أطلقه حافظ الأسد قبل نصف قرن، لم يعد الحزبَ القائد للدولة والمجتمع، ليس بفضل التعديل الدستوري الشكلي عام 2012، والذي أعفاه من هذه المهمّة نظرياً، وأبقاها عملياً، وإنما جرّاء الاحتلال المُفرط الذي أصاب البلاد، ولازمها اعتباراً من النصف الثاني من العقد الماضي، وجعلها تُدار من الخارج، ويقرّر الروس والإيرانيون مصيرها، ومصير نظامها الحاكم، غير آبهين بأغنية شهد برمدا "منحبّك"، ولا بأغنية ميلاد القصير التي أهداها لبشار الأسد بمناسبة هبوط ضغطه المفاجئ خلال خطابه أمام مجلس شعبه عام 2020، وغير آبهين أيضاً بحزبٍ هجره مريدوه منذ زمن، منذ هزمهم بمجيئه إلى السلطة، أو على الأقل منذ سمحوا له بفعل ذلك، من دون أن يتخيّل أحدٌ حجم الضريبة ولا كلفتها العالية المتأتّية من ذاك المجيء، أو مقدار الخيبة الباهظة التي تمّت جبايتها منهم، وظلوا يدفعون الفوائد المصرفية المرتفعة المترتّبة عليها.