الحرب الإسرائيلية لقتل كل حلٍّ سياسي
طوال تاريخ الصراع في المنطقة، وفي كل عدوانٍ على الفلسطينيين أو العرب، برّرت إسرائيل عدوانيّتها بأنها "دفاع عن النفس". استنفدت إسرائيل كل الذرائع والاشتقاقات اللغوية والتسويفات التي تقلب حقائق الصراع على الأرض الفلسطينية، الذي تجاوز عمرُه القرن. نجحت إسرائيل، بعض الوقت، في إقناع العالم بأنها ضحيّة مطلقة للمحيط العربي المعادي الذي يريد إلقاء سكّانها في البحر، والقضاء على دولة إسرائيل. لكن وكما يقول المثل: "تستطيع أن تكذب على كل الناس بعض الوقت، وعلى بعض الناس كل الوقت، لكنك لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت". لا تكمُن مشكلة إسرائيل اليوم في استمرار محاولاتها إقناع العالم بأحقّيتها في الدفاع عن نفسها (عدوانها المستمرّ على الفلسطينيين) في مواجهة "الإرهاب" الفلسطيني فحسب، بل في إصرارها على الفلسطينيين (الضحايا) بقبول الرواية الإسرائيلية، والإقرار بأنهم المعتدون على دولة إسرائيل "المُسالمة"، وهي ضحيّتهم وليست جلادهم!
لا يضيف العدوان الإسرائيلي الجديد، على وحشيته المنفلتة من عقالها، على غزّة، جديدا للرواية الإسرائيلية التقليدية عن إسرائيل، الضحيّة التي تتعرّض للعدوان من إرهابيين لا يريدون لمواطني دولة إسرائيل العيش بسلام، لذلك هي تدافع عن نفسها. ماذا عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية؟ وماذا عن المستوطنين وجرائمهم في الأراضي الفلسطينية؟ ماذا عن جرائم الاحتلال اليومية بحقّ الفلسطينيين؟ ماذا عن جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية؟ ماذا عن الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية؟ ماذا عن الاعتداءات المستمرّة على المسجد الأقصى؟ ماذا عن التوسّع الاستيطاني الهستيري؟ ماذا عن حصار غزّة واستباحتها الدورية وسفك الدم الفلسطيني المستمرّ؟ وماذا...؟ وماذا...؟
غزّة المكان المكتظ بالبشر، الأعلى كثافة في العالم، حوّلته إسرائيل إلى سجن كبير، وتحوّله اليوم إلى ركام
تشتقّ إسرائيل أجوبتها من منطق "الضحية" التي تتعرّض للعدوان، ومنطق حقّها في ملكية الأرض كلها. لذلك كان تبرير رئيس الوزراء الأسبق إرئيل شارون لانسحاب إسرائيل الأحادي من قطاع غزّة وتدمير المستوطنات هناك، هو المفاضلة بين "يهودية الدولة" و"أرض إسرائيل الكاملة" فكانت الأولوية التي قرّرها شارون هي لـ"يهودية الدولة"، فكان الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزّة بوصفها مستودعا ديمغرافيا فلسطينيا يشكّل خطراً على "يهودية الدولة". لكن هذا الانسحاب أوجد وضعاً قانونياً وسياسياً فريداً من نوعه، واقعاً ملتبساً لا ينطبق عليه أي مصطلح قانوني أو سياسي، بدعة إسرائيلية عجيبة؟! لا هو أرض محتلة، ولا هو أرض مستقلة، مكان انسحبت منه إسرائيل، وصنّفته بعد سيطرة حركة حماس عليه "كيانا معاديا"، وما زالت تتحكّم به، وتحاصره، وتعودُ كل مرّة إلى الاعتداء عليه، تحت العنوان نفسه "الدفاع عن النفس"، فهي انسحبت منه، وتصرّ على التحكّم به، وتتحكّم وتراقب ما يدخل إليه من مواد غذائية وطبية وبناء... إلخ. اليوم، لا يقبل اليمين الصهيوني الديني بمفاضلة شارون التي دفعت إلى الانسحاب من قطاع غزّة، والمقاربة الجديدة لهذه الصهيونية الدينية هو الجمع بين يهودية الدولة وأرض إسرائيل الكاملة، وتنفيذ ذلك من خلال العدوان الوحشي القائم على قطاع غزّة، بحل جذري بطرد أهالي القطاع خارجه وإعادة بناء المستوطنات فيه.
ما ذنب قطاع غزّة؟ ذنب قطاع غزة الذي يشكّل اللاجئون الفلسطينيون أغلبية سكانه، هؤلاء الذين اقتلعتهم إسرائيل من ديارهم، وشيّدت دولتها (السلمية!) على أشلاء وطنهم، أن هؤلاء اللاجئين وسكان غزّة يطلبون حقهم في العيش الطبيعي، كما يحيا كل البشر في كل مكان. غزّة المكان المكتظ بالبشر، الأعلى كثافة في العالم، حوّلته إسرائيل إلى سجن كبير، وتحوّله اليوم إلى ركام، وتحوّل سكّانه إلى شهداء ومعوقين ومقتلعين من بيوتهم. وبحكم العدوان المستمرّ والمتكرّر على قطاع غزّة، لم يعرف سكانه، بكل فئاتهم، العيش الطبيعي عقودا، فهم طالبوا ويطالبون بأقلّ الحقوق التي تمنحهم حياة طبيعية كريمة، حياة ليست معلقة على حربة المحتل التي يغرزها المرّة بعد الأخرى في الجسد الحي لسكّان القطاع، الأطفال، النساء، والشيوخ، من أجل "حماية" سكّانه المذعورين من الضحية. تتوغّل إسرائيل في الدم الفلسطيني من جديد، حلا لعقد أمنية تعيشها، لا يفكّكها سوى حلّ سياسي أساسه الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في وطنهم والنظر إليهم بصفتهم بشرا، وهو ما لا تريده، وتصرّ على النظر إليهم من فوّهة الدبابة أعداء مطلقين.
الحل السياسي يحتاج دفع الثمن، حرّية الفلسطينيين واستقلالهم على أرضهم، إسرائيل عاجزة وغير راغبة في دفعه
ذنب غزّة أنها طلبت وتطلب حقّها في الحياة، حقّها في رفع الحصار، حقّها في الحصول على الحدّ الأدنى من الحرّية، حرّية الصيد الطبيعي في بحرها، الحرّية في إعادة بناء ما تدمّره الآلة العسكرية الإسرائيلية المرّة بعد الأخرى، الحقّ في تحريم دمائها على حربة الاحتلال... إلخ من العيش الطبيعي. ذلك كله، وكما يعرف كل إسرائيلي، لا يمكن أن يكون من دون حصول الفلسطينيين على حرّيتهم واستقلالهم على أرضهم. هذا الثمن الذي لا يريد الإسرائيليون دفعه، لا نخبة ولا شعباً. رغم أن النخبة الإسرائيلية في كل عدوان إسرائيلي تستخلص الاستنتاج الطبيعي "لا حلّ عسكرياً مع الفلسطينيين"، فإنها لا تذهبُ في الاستنتاج إلى نهايته، وهو أن الحل السياسي يحتاج دفع الثمن، حرّية الفلسطينيين واستقلالهم على أرضهم، إسرائيل عاجزة وغير راغبة في دفعه. لذلك، تعود المرّة بعد الأخرى إلى محاولة حسم الصراع مع الفلسطينيين عبر الآلة العسكرية من جديد، رغم الإدراك المسبق لعجز هذا النوع من الحلول. لكنه حلّ مؤقت، يؤجّل، المرّة بعد الأخرى، الحلول السياسية غير المرغوبة إلى أجلٍ غير مسمّى.
لا أعرف إذا كانت هناك مفاوضات في العالم استغرقت كل هذا الزمن. عندما عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرّف إسحاق شامير وممثلها يخطّط لاستمرار المفاوضات عشر سنوات من دون نتيجة. ويبدو أن طموحاته كانت متواضعة. الآن، مضى أكثر من ثلاثة عقود على بدء مفاوضات سلام لم تصل إلى مكان، بل على العكس، عملت إسرائيل على إيجاد وقائع جديدة على الأرض، منتجة واقعاً أسوأ، كان من المفترض أن لا يقوم حسب اتفاقات أوسلو. هذا كله من أجل قتل أي عملية سياسية. واليوم تتوّج مسارها بإيقاع نكبة جديدة بالفلسطينيين، كنتاج طبيعي لحرب استقلالها الجديدة التي أعلنتها على قطاع غزّة وسكّانها سجناء الاحتلال.
إغلاق إسرائيل أي أفق سياسي، وعدم إقرارها الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، يستدعي مقاومة الاحتلال، الأسوأ في تاريخ العالم، المرّة بعد الأخرى. وعندما نضع الضحية في وضعٍ يائس، لا يمكن لومُها، لأنها تعض حديد الآلة العسكرية الإسرائيلية بأسنانها العارية.