الحالة الغريبة لبورجوازي يمني
على الرغم من أنه في صلب واقع اليمن المعاصر وتاريخه، استطاع رجل الأعمال اليمني، شاهر عبد الحق (2020 - 1939) أن يقنع المجال العام اليمني بطابعه الشَّبَحي الذي حرص على تأكيده طوال حياته. لا توجد مقابلة صحافية واحدة معه، وثمّة مقطع فيديو يتيم مدته ثوانٍ يظهر فيه برفقة الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وحتى عام 2009، لم يكن اليمنيون يعرفون وجهه.
في هذه الحالة الشبحيّة أمران يلفتان النظر: ندرة هذا السلوك بين رجال الأعمال المدنيين. وهذا أمر قد يومئ إلى دوافع شخصية الرجل التي لا علاقة لها إلا بالمال والسلطة، مع زهدٍ في طلائها من ظهور ولمعان، وقد يكون الأمر كله مبالغاً فيه. ربما كان الرجل خجولاً فعلاً كما يقال. الأمر الثاني أن "الغموض" في عالم الصحافة والنقاش السياسي حافز للبحث والتنقيب، ولكنه في السياق اليمني تحوّل إلى أمرٍ يُحتفى بالإشارة إليه! أغلب الأخبار التي نقلت خبر وفاة عبد الحق مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الجاري خلعت عليه صفة "الغامض" ومشتقاتها، وهكذا أضحت الصحافة اليمنية في حالة تيهٍ لم تعد تميّز فيه وظيفتها، وهي إمداد نقاش الشأن العام بالمعلومات (المثيرة وغير المثيرة)، من تناقل العبارات المستهلكة.
مع اندلاع ثورة فبراير في 2011 اصطفّ شاهر عبد الحق، مثل أغلب الطبقة التجارية، مع النظام
ينتمي شاهر إلى الجيل الثاني من البورجوازيّة اليمنية الذي ظهر مع ثورة 26 سبتمبر في 1962، وهو قادمٌ من الحُجَرِيَّة (منطقة ريفية في محافظة تعز) التي شكلت أحد مناجم البورجوازية الوطنيّة منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى عام 1990. تميز هذان الجيلان عموماً بالانحدار من الأرياف والبدايات العصاميّة. وتميز الجيل الأول، علاوة على ذلك، بالاضطرار إلى الهجرة إلى عدن، حين كانت مستعمرة إنكليزية، وإلى شرق أفريقيا، بسبب حالة الدولة السلطانية التي كانت عليها المملكة المتوكليّة التي لا تسمح شروطها بنشوء بورجوازيّة وطنيّة.
امتاز شاهر عبد الحق من هذين الجيلين بأنه مثّل البورجوازي المتحرّر من أي واجبٍ اجتماعي أو دور تنويري؛ لا يُذكر أن شاهر ساهم في دعم قوى سياسية تقدميّة، أو في تمويل مشاريع تنموية في الأرياف أو بناء مؤسسات ثقافية في المدينة. كذلك فإن نشاطاته الاقتصادية لا تشير إلى أي أحلام تخصّ الاقتصاد الوطني، فلم يركز كثيراً على مشاريع التصنيع، واهتم في آخر ثلاثين سنة بقطاعات النفط والاتصالات والبنوك.
ينتمي شاهر عبد الحق إلى الجيل الثاني من البورجوازيّة اليمنية الذي ظهر مع ثورة 26 سبتمبر
تضافر هذا التحرّر من الهموم الاجتماعيّة مع توغّل في العلاقات مع النظام، والاستفادة منه في التحرّر من الشرط القانوني، مثل الضرائب ومعايير المناقصات والقروض. بل تجاوز عبد الحق سلوكه "التحرّري" من الواجب والقانون في دولة عالمثالثية، كاليمن، إلى جني المال مباشرة من الدولة بدون أي إنتاج، وذلك عبر إقراض البنك الذي يملك فيه الحصّة الأكبر (بنك اليمن الدولي) الحكومةَ اليمنيّة التي كانت تدفع للبنوك المحلية كل عام، ومنها هذا البنك، فوائد بمليارات الدولارات، تقضم جزءاً كبيراً من الموازنة العامة، وتقضم معها شيئاً من حياة اليمنيين ومن نصيبهم، الضئيل أصلاً، من الصحة والتعليم والخدمات.
تأقلمت البورجوازية الوطنية مع سياسات علي عبد الله صالح بعد 1994، وتحولت إلى بورجوازية "محليّة"، وتكيّفت مع طبقة التجار الجدد التي تشكلت من أبناء مشايخ القبائل وكبار المسؤولين مع رسوخ النظام بعد حرب 1994، وتحوّله النيوليبرالي منذ 1995، خصوصاً مع ظهور قطاعي النفط والاتصالات اللذين يسيل لهما لعاب أهل الحكم والمال، واللذين سيغيران الكثير لاحقاً في الاقتصاد السياسي والتفاعلات الاجتماعية في اليمن. كان شاهر، على الرغم من كهولته آنذاك، رشيقاً في انسجامه مع إيقاع التحوّلات الجديدة، لأنه كان، منذ البداية، ينتمي إلى عالمها وقيمها.
تأقلمت البورجوازية الوطنية مع سياسات علي عبد الله صالح بعد 1994، وتحولت إلى بورجوازية "محليّة"
مع اندلاع ثورة فبراير في عام 2011، اصطفّ عبد الحق، مثل أغلب الطبقة التجارية، مع النظام. وفي المرحلة الانتقاليّة، كانت الصراعات تدور رحاها بين أضلاع مثلث النظام القديم/ الجديد: الرئيس عبد ربه منصور هادي، والتجمع اليمني للإصلاح، وصالح. في هذا الصراع، كانت البورجوازيّة شريكاً وأداة وهدفاً: حاول الرئيس هادي نزع آل هائل سعيد (أكبر مجموعة تجارية في اليمن) من كنف صالح إلى صفّه، بتعيين رجل الأعمال شوقي هائل محافظاً لتعز عام 2012، بينما كان رجل الأعمال والشيخ القبلي، حميد الأحمر، ذا نفوذ على رئيس حكومة الوفاق الوطني ووزراء "اللقاء المشترك" فيها. واصطف عبد الحق، بهدوء ومن دون استفزاز، مع صديقه صالح. ظل "الإصلاح" يزعج آل هائل بطرق مختلفة طوال المرحلة الانتقالية، وكان هادي يحاول الفكاك من سطوة الحزب ورجل الأعمال الأقوى فيه حميد الأحمر الذي يناوئ صالح منذ 2006. لكنّ مستوى الصراع تغيّر، حين تُرجم انتصار صالح على خصومه بفتح الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، بعد قرابة شهرين من اجتياح الحوثيين صنعاء، ملفات التهرّب الضريبي الخاصة بإحدى شركات حميد الأحمر (شركة اتصالات)، لتفتح الهيئة، بعد نحو شهر، ملف فساد صغيراً (بالقياس إلى ملفّ الأحمر) لإحدى شركات شاهر عبد الحق (شركة اتصالات كذلك!). ويبدو أن ذلك كان محاولة لإضفاء شيءٍ من الشرعية على انتقام صالح من آل الأحمر وإمبراطوريتهم التجارية.
وعليه، كان لعبد الحق، على الأرجح، دور في الثورة المضادّة عام 2014، (ودور مثبت في "وثائق بنما" في تهريب أموال صالح بعد اندلاع حرب 2015)، ولكن مداه يظل سؤالاً مفتوحاً، هذا الصراع السياسي عموماً وتفاعلاته على ميدان الطبقة التجاريّة وبمشاركة أقطابها، ودور المال في الثورة المضادّة من الفصول الغامضة في المرحلة الانتقالية التي لا تزال بلا تأريخ.
على كل حال، سيرة شاهر عبد الحق، ببداياته المجهولة وحجم ثروته ومدى تورّطه مع الأنظمة العربية ونمط حياته وصداقاته مع الحُكّام، ليست مهمة للباحث في تاريخ اليمن المعاصر فحسب، هي أيضاً مادّة لأمتع كتب التراجم التي يؤلفها الكُتّاب الحكّاؤون الذين يجمعون الأسلوب الأدبي والدأب الاستقصائي، أولئك الذين يفرحون بالحكاية فرحهم بالمعلومة، ونأمل أن يلتفت أحدهم إلى هذا الأمر، فيستدرك ويجمع ما يمكن جمعه من معلومات، خاصةً مع غياب الأرشيف في اليمن، ويخفّف من أضرار جمعيتي "ليذهب إلى الجحيم" و"كان المرحوم صديقي"، اللتين تُشكّلان فور وفاة أحد المشاهير، على التاريخ والذاكرة.. والحكاية.