مثقّف التعبئة عبءٌ مثقّف

18 يونيو 2024

(إبراهيم الصلحي)

+ الخط -

المثقّف يعذّبه السؤال عن الجدوى والأثر؛ عن أهميّة ما يفعله في خضم التحوّلات الجمعيّة التي تقزّم طاقة الفرد، ويزداد هذا السؤال عنفًا حين يقيس المثقّف حجمه إلى حجم أولئك المنتسبين إلى عالم جهاز الدولة ورأس المال؛ عالم القوّة. قد تدفع محاولة الإجابة عن سؤال الجدوى بعضهم إلى تقبُّل محدودية الدور، وتحرّض آخرين على قفزة رومانسيّة نحو تضخيم دوره التاريخي والإنساني، وهو أمرٌ مغرٍ للمثقّفين لملاءمته حسّهم الفردي والنرجسيّة الشائعة بينهم. وهناك من ينطلق من إدراك حدود تأثيره والطبيعة التراكميّة لدوره التاريخي، إلى تطوير انشغاله الأساسي بالشأن العام، إلى الاشتغال فيه مثل الانتساب إلى أحزاب وبناء مؤسّسات والعمل داخل أجهزة الدولة (أو في رأسها إن سنحت الفرصة). ليست هذه الخيارات مطلقة؛ هي منسوجة بسياقات وشروط، وبالتالي، ليست متاحة أمام جُلّ المثقّفين. بعضها يحتاج دولا فيها ديمقراطيات، أو هامشا ديمقراطيا، وبعضها يستلزم، في الأقلّ، ديكتاتوريّات منهمكة في مشاريع تحديث تحتاج إلى المثقّفين.

لأنّ المجال العام مغلقٌ أمام أيّ عمل اجتماعي فاعل لوقف الإبادة وإغاثة الشعب الفلسطيني، يحلّ المثقّف أزمته بنقلة مماثلة لخصمه المتماهي مع النظام

بعد انهيار دول عربية وتوحّش أخرى، إثر هزيمة الثورات العربيّة في آخر عقد، لم يعد الخياران المذكوران متاحين؛ لا الأنظمة/ المليشيات من التنوّر بمكان بحيث أضحت في حاجة إلى المثقّفين في جهازها، وليست من الثقة في رسوخ حكمها لتترك مساحة حيّة لعمل مؤسّسي جماعي على هامش الموات السياسي، ولا المجال العمومي ذو هوامش فسيحة تسمح للمثقّف أن يجتزئ بالكتابة عن العمل الجمعي أو السياسي؛ أصبحت الأهوال تترصّده إن نشر مقالة أو كتابًا يقول فيهما رأيًا. في هذا الوضع الجديد، نشأت "منزلة بين المنزلتين"؛ مكانٌ بين رومانسيّة التفرّد ونضاليّة العمل الجماعي، وهي منزلة التنظير للواقع.
أمام فواجع الواقع التي لا تطاق، يمتاز مثقّف هذه المنزلة باحتقاره تضخيم دوره مع عجزه المُركّب عن التحول محدثَ تغيير مباشر أو محو وشوم رومانسيّته الغائرة، فيلجأ إلى التماهي مع طرفٍ يختاره، ثمّ التنظير لواقعه متخلصّاً بذلك من مأزقه بضربة واحدة. من الحالات القمينة بالنقاش منظّر واقع النظام. وصدّق أو لا تصدّق، ثمّة بين عتاة المدافعين عن النظام العربي اليوم مثقّفون لا يفعلون ذلك تزلّفاً أو رهبةً، بل يدفعهم تجدّل مأزقهم العمومي بأزمة النظام نحو هذا المتراس، ولكن ما يهم في هذا الموضوع حالة أخرى. كما تُعلمنا يوميات المجال العربي، ليس شائعاً احتكار تيّارات سياسية أو قطاعات اجتماعيّة أزماتَها؛ فهي بفعل منابعها السياقيّة تخترق تشكيلات اجتماعية وتيّارات سياسية أخرى، فتأخذ أصباغاً مع احتفاظها بمنطقها الداخلي ذاته. وهنا، نتعرّف إلى المثقّف الواقف في الضفّة المقابلة للنظام العربي، وهو مثقّف التعبئة. هذا المثقّف يقف مع حركة المقاومة في غزّة، وأمام الإبادة والحصار والخذلان، والتضحيات المروّعة التي يقدمها الملايين من الشعب الفلسطيني، وملحمية التصدّي لآلة الحرب الإسرائيلية، ومن ورائها الإمبراطورية الأعتى، بقضها وقضيضها... أمام هذا كلّه يشعر المثقّف بالضآلة والعجز مثل أيّ إنسان سوي. ولكن، لأنّ المجال العام مغلقٌ أمام أيّ عمل اجتماعي فاعل لوقف الإبادة وإغاثة الشعب الفلسطيني، يحلّ المثقّف أزمته بنقلة مماثلة لخصمه المتماهي مع النظام، ينظّر لواقع حركة المقاومة ذاته؛ وواقع حركات الكفاح المسلّح هو واقع بائس بالضرورة.
هكذا، تغدو الإكراهات التي تقع تحت وزنها المرهق أيّ حركة كفاح مسلّح في العالم سياساتٍ حكيمة يجب التنظير لها والدفاع عنها، وكلّ خطاب تفرضه توازنات المعركة، ليس مبررًا فقط، بل ويجب الاحتفاء به بوصفه خيارًا حُرًّا، وليس مُجرّد ضرورات، وأيّ خطأ في حساباتها ليس خطأً أصلًا، وكلّ مشاكلٍ في تصوّرها للعالم ليست مشاكل، بل هي البرنامج المنشود، والفواجع التي تنزل على رؤوس الأبرياء ما هي إلا ثمن المعركة، قاصداً بذلك شدّ عضد المقاومة وتمتين صمودها. هنا يتماهى مثقّف التعبئة مع حركة المقاومة فيصيرا شيئاً واحداً. وهكذا، وبصوفيّة غريبة ومَرَضية، يستحيل هو نفسه حركةَ المقاومة.
هؤلاء المثقّفون في اللحظة التي يقرّرون فيها الانطلاق في مسارهم هذا، لا يعودون مثقّفين. المسألة ليست نزع ألقاب عن الآخرين؛ فالمثقّفون في عهد الرأسمالية المتأخّرة لا يتمتّعون بالمكانة الاجتماعيّة والموقع الطبقي اللذَيْن كانا لهم، يومًا، في القرن الماضي. كما أنّهم مثل غيرهم في السياق العربي بلا حول أو حيلة إزاء واقعهم. للمسألة علاقة بالوظيفة؛ فالامتياز المتبقّي أمام المثقّفين هو موقعهم الإشكالي بين الفاعلين العموميين والمجتمع؛ فلأنّهم ليسوا النظام، وليسوا حركة الكفاح المسلّح، هم متحرّرون من اعتبارات كثيرة تحكمهما، ولهذا، بإمكانهم ممارسة دورهم المحدود المتمثّل في الوقوف مع قيم عظيمة تعطي للأشياء معنى، وجعل العالم قابلًا للتعقّل والفهم والتغيير.
إذا تيسرت الفرصة بأنّ يشاركوا في الفعل التغييري المباشر، فهذا، ربّما، أفضل للمجال العام العربي، الذي يحتاج مثقّفين مسيّسين بإمكانهم الاضطلاع بمسؤوليات عموميّة محدّدة، ولكن، بشرط أن يكونوا فاعلين حقيقةً؛ التماهي مع النظام أو المقاومة مُجرّد وهم، ولكنّه وهم مُضرّ، لأنّ المثقّف حينها يصبح عبئًا اجتماعيًا؛ فلا هو يؤدّي وظيفته في المجال العمومي، ولا هو فعلًا مسؤول في النظام أو قيادي في حركة الكفاح المسلّح حتّى يقدح شرارة تغييرات أو يتحمّل مسؤولية سياسات.

تحتاج المقاومة منطقاً يتحدّث إلى الناس في واقعهم الكابوسي، لا تطيق حركة مقاومة أن تستبطنه وتتحدّث فيه

كما أنّه أيضًا عبءٌ على الجهات التي يتماهى معها؛ خاصّة في حالة المقاومة. هي تحتاجهم حتّى تميّز الجماهير العربية الإكراهات من السياسات، وتوسّع بذلك المقاومة من قاعدتها الشعبية العربيّة، التي أثبتت هذه الحرب، بأفجع الطرائق، أهميتها؛ إنّ نتائج تهتُّك الضغط الشعبي العربي في حرب غزّة هو دليل مصيريّته لفلسطين لا انعدام قيمته.
تحتاج المقاومة، أيضاً، منطقاً يتحدّث إلى الناس في واقعهم الكابوسي، لا تطيق حركة مقاومة أن تستبطنه وتتحدّث فيه، وأخيراً، هي موضوعيّاً تحتاج مثقّفين معها حتّى تفهم أشياءَ عن العالم لا تستطيع أيّ حركة مقاومة فهمها بتجربتها الذاتية وأفقها الأيديولوجي. في النهاية، هي لا تمتلك جهاز وموارد دولة، وهذا بالطبع يتضمّن نقدها الواضح في التوقيت الصحيح، والانخراط، من موقع المؤمن بالتحرّر، في مراجعات هذه الحركات لذاتها ونقاشاتها في فضائها الثقافي. هذه هي الأمور التي تُساهم في صمود حركات النضال أمام الإبادة، وليس التعبئة، أو في الأقلّ، ليس التعبئة التي يتبرّع بها مثقّفون.

8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.