الحالة الإقليمية عربياً وسياقات التغير الدولي
على مدى الشهور الماضية، شهدت المنطقة العربية انعقاد عدة اجتماعات دولية وإقليمية، انصبّ اهتمامها على مناقشة توجهات الإقليم العربي ودول الجوار إزاء القضايا الدولية. وبالإضافة إلى سعي الولايات المتحدة والصين إلى إقامة علاقات جماعية، يثير إطار مؤتمري "بغداد للشراكة" و"الشام الجديد" المفاضلة ما بين الاستجابة للانضواء في تحالفات دولية أو التوجه إلى تطوير إطار إقليمي، وتزداد أهمية التناول مع تنامي الآراء القائلة بالحاجة لمراجعة النظام الدولي أو تغييره جذرياً.
وقد ناقش الكاتب في مقال سابق تحت عنوان "البحث عن تحالفات إقليمية.. من إكراهات التطبيع إلى توسيع الهامش"، نشرته "العربي الجديد" (18/4/2022)، فرص تكوين تحالفات مستقلة تتمتع بهامشٍ مستقرّ في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. وخلال هذه الفترة، جرت مشاورات بين قادة الخليج العربي، العراق، مصر، الأردن وتركيا، دارت حول تنسيق السياسات تجاه الأزمات الدولية. وبعد قمة العلا في بداية 2020، استمر تراكم التواصل السياسي بين بلدان عديدة، لم تقتصر على التواصل الثنائي، بل شهدت لقاءات جماعية على مستوى الخليج العربي والشام الجديد، وأخيراً ظهور مؤتمر "بغداد للشراكة والتعاون" في أغسطس/ آب 2021. وعلى المستوى الثنائي، حدثت تطورات جوهرية انتهت بلقاء الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، في قطر في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لتكتمل سياقات التقارب الإقليمي والدخول في مرحلة ترسية مسارات التعاون.
وبمتابعة اتجاهات السياسة الخارجية لهذه البلدان، يمكن ملاحظة مساحات التلاقي السياسي والاقتصادي والثقافي، فلم يدخل في علاقات عدائية أو انقطاع تاريخي في القرون الأخيرة، فيما ترجع حالات التوتر إلى تجربة الاحتلال الأوروبي وإثارتها القوميات في نهاية القرن التاسع عشر. وتضع وثائق السياسة الخارجية لبلدان عربية كثيرة وتركيا المنطقة ضمن دوائر المصالح الرئيسية. وتُفسر الرغبة المشتركة في ضبط التوتر، خلال السنوات الماضية، مدى الارتباط بالجذور الرئيسية لتاريخ العلاقات وعدم استجابتها للانضواء في شبكات أو تحالفات ضارّة بالأمن الإقليمي. ويلفت تباطؤ الاستجابة لمشاريع الولايات المتحدة الانتباه للإدراك المشترك لمخاطر تكرار الانخراط في نظام أمني أو عسكري.
منحت قدرة الحكومات على تحييد الخلاف السياسي تجاه العلاقات التجارية الفرصة للحفاظ على الشركاء التجاريين لسهولة انتقال الموارد بين دول الفائض والعجز
ولذلك، ظهر تَحَسّن في الانتقال من التوتر لتكون التطلعات الاستراتيجية القاسم المشترك بين اجتماعات العواصم الإقليمية، حيث انشغلت بالإقلاع عن توتراتٍ سادت العقد الماضي. انعكست هذه الخصائص في لقاءات الرؤساء والاجتماعات الإقليمية خلال العامين الماضيين. ويكشف التمييز ما بين توجهات السياسة الخارجية والعلاقات التجارية القدرة الكامنة في القابلية للتكامل الإقليمي لتقارب الخلفيات الثقافية، التاريخية والاجتماعية. وقد ساعدت هذه العوامل على تحييد التجارة، فمن حيث التبادل الإقليمي، شغلت التجارة البينية مستويات متقدّمة في ما بين مجموعة دول الخليج، تركيا، مصر والعراق. وعلى المستوى الدولي، يُضفي تَوَزع التجارة الدولية للمنطقة بين مجموعة الدول الآسيوية والغربية مرونةً على السياسة الخارجية.
وبشكل عام، منحت قدرة الحكومات على تحييد الخلاف السياسي تجاه العلاقات التجارية الفرصة للحفاظ على الشركاء التجاريين لسهولة انتقال الموارد بين دول الفائض والعجز، وذلك في جوانب العمالة، رأس المال والتكنولوجيا. وفي هذا السياق، تبرز أهمية دور الاستثمار المباشر في تكوين علاقة صحية ما بين عناصر الإنتاج. وهنا، تمثل اتفاقيات نقل الطاقة ونشر المشروعات الصناعية والزراعية حلولاً ملائمة لخفض قيود التنقل والتجارة.
وقد انعكس تنوّع الفائض وتَوزعه على البلدان، ما بين وفرة السكان، رأس المال، والموارد الطبيعية، في تعدّد النشاط الاقتصادي بين استخراج المواد الخام، الصناعة التحويلية والتوجه إلى نمو التصنيع، فهناك دول تُشكل عوائد النفط ما لا يقل عن 70% من الدخل القومي لها، فيما تتوزّع عوائد الدخل القومي في بلدان مزيجاً من القطاعين الصناعي والزراعي. وخلال السنوات الماضية، تنامى القطاع الصناعي بصورة كبيرة، بحيث اقتربت تركيا من تصنيف الدول الناشئة أو الصناعية الجديدة عندما عملت على رفع معدلات نمو القطاع الصناعي مقارنة بالقطاعات الأخرى وانعكاسه في التجارة الخارجية.
يُمثل التداخل الدولي مع أزمات سورية وليبيا واليمن فراغاً أمنياً تنحدر مصادره من الترابط الروسي ـ الإيراني، وفائض جماعات العنف والتطرّف
وبالنظر إلى خطط التنمية، يمكن ملاحظة تزايد الحديث عن المشروعات الممتدة، وبغض النظر عن معدل السير والإنجازات المتوقعة، فإنها تُمثل أرضية مناسبة للتفكير المشترك والمُراجعة لتكون ضمن المصالح الإقليمية الخالصة، وخصوصاً ما يتعلق بالشراكات الإقليمية في سياسات التنوّع الاقتصادي لدول الخليج، والتوسّع الصناعي في تركيا، وتوسيع البنية الأساسية في مصر. وترتبط المسألة الأساسية بأهمية استقرار السياسة النقدية وخفض التضخّم أو معالجة آثاره، بحيث يُعزز انتقال رؤوس الأموال والعمالة التنمية الصناعية أو الزراعية.
وتقتضي مناقشة اتجاهات تطور نسق إقليمي الاقتراب من الفرص/ القيود الدولية ومدى تأثيرها على العلاقات الإقليمية. على المستوى الدولي، يمكن التمييز بين اتجاهين، أولاً، فبعد مشوارٍ من الحراك الدولي على خلفية أزمة أوكرانيا، يحدُث توسّعٌ في مطالب تعدّدية النظام الدولي من الدول الشرقية المنخرطة في حرب أوكرانيا والداعمة لها، بالإضافة إلى قطاعٍ كبيرٍ من الدول النامية. ومن اللافت انتقال هذه التطلعات لقلب أوروبا عندما عرض المستشار الألماني أولاف شولتز، في مجلة فورين أفيرز، في يناير/ كانون الثاني الحالي، أفكاره عن أهمية إجراء تغييرات جذرية تقوم على تجاوز الثنائية القطبية والهيمنة، مُعتبراً العولمة مرحلة استثنائية. وقد أشار إلى أولويتي بناء نظام أمني مستقل وتعديل هيكل تجارة الطاقة.
بشكل عام، تلقى هذه الأفكار صدى في البلدان النامية، عندما انشغلت بمطالب توسيع الفاعلين في الأمم المتحدة ومراجعة النظام الدولي القائم. وفي خطوات مُبكّرة، أدركت دول المنطقة اتجاهات الحراك الدولي. فمن جهةٍ عملت على تبنّي مواقف تقوم على احترام ميثاق الأمم المتحدة، ومنع إساءة استخدام الدول دائمة العضوية له، وكان هذا واضحاً في امتناع دولٍ كثيرة عن التصويت لطرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان، وتجنب التطلّعات الغربية للتوسع في إدانة العدوان الروسي وتحويل بعض الإجراءات لعقوبات شرعية. ومن جهة أخرى، تجانست سياسات الخليج ومصر وتركيا في التقارب مع الحل الديبلوماسي وعدم التورّط في الحرب، بالإضافة إلى انفتاحها على التجمّعات الدولية السياسية والاقتصادية.
ظهر تَحَسّن في الانتقال من التوتر لتكون التطلعات الاستراتيجية القاسم المشترك بين اجتماعات العواصم الإقليمية
وثانياً، تواجه العلاقات الإقليمية قيود وضع إسرائيل وإيران من وجهة ارتباطهما بتحدّيات أمنية وعسكرية. خلال الشهور الماضية، بدت محاولات غربية لتكوين تحالف ضد إيران. وللتعويض عن تباطؤ محاولات الولايات المتحدة، تحاول فرنسا دمج العراق إقليمياً بعيداً عن النفوذ الإيراني. ولذلك، يثير هبوط فرنسا على مؤتمر "بغداد للشراكة والتعاون" أسئلة، لم تُقدم كلمة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في القمة الثانية، في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2022، إجابة كافية عنها، حيث ذهب إلى الحديث عن الخصائص الاستراتيجية للمنطقة وإنهاء النفوذ الإيراني في سورية، بالإضافة إلى المساندة في حرب أوكرانيا. ويعكس استهلالها بسؤالٍ عن سبب وجود بلاده، رغم بعدها جغرافياً، الجدل حول الاطمئنان لدور فرنسا. ولذلك، يمكن تفسير انخفاض تمثيل دول الخليج وتركياً تعبيراً عن القلق من السياسة الفرنسية. وبهذا المعنى، يسير مؤتمر بغداد نحو توسيع مساحات عدم التجانس بين مشاركيه، فالأمر لا يتوقف على المشاركة الفرنسية بقدر ما أن تفضيل استمرارها يمسّ الرغبة في انسياب التعاون الإقليمي.
وفي هذا السياق، يُمثل التداخل الدولي مع أزمات سورية وليبيا واليمن فراغاً أمنياً تنحدر مصادره من الترابط الروسي ـ الإيراني، وفائض جماعات العنف والتطرّف. كما يُقدم ترابط الأحزاب العمالية الكردية مع دول الغرب أشكالاً لتحدّي الاستقرارين الداخلي والإقليمي. وتكمن المشكلة الأساسية في ما تمثله الجماعات المسلحة من تقويض لمحاولات وقف الحرب الأهلية.
وبشكل عام، يمكن تقييم الفرص والقيود في ضوء التوجهات المشتركة. وهنا، تمكن الإشارة إلى أن تطوّرات العامين الماضيين صاغت أرضية مناسبة للتقارب الإقليمي والاستفادة من التغيرات الدولية في إعادة البناء ما بعد الحرب الأهلية وتحويل الصراع. ولذلك تساعد التغيرات في السياسة التركية تجاه سورية على فتح الفرصة أمام تقارب مفهوم الأمن الإقليمي. وإلى جانب كشف حالة تنظيم كأس العالم عن إمكانية التفاوض مع النظام الدولي، يساعد تعدّد الفواعل الإقليميين في التنسيق لأجل تقليل منافذ التدخل الأجنبي، بحيث تعمل على تشكيل مركزية إقليمية لتخفّف فجوة العلاقات غير المتكافئة بين الجنوب والشمال. ويعزّز وجود تركيا والسعودية، دولتي فائض، ضمن مجموعة العشرين، القدرة على التكيف مع التوجهات الاقتصادية الدولية، وتزداد فاعليته في وجود إطار إقليمي للتعاون، يقوم على تجميع المصالح وتثبيت هامش التأثير في السياسة الدولية.