الجيش الإسرائيلي في قلب الصراع السياسي
تغامر المعارضة الإسرائيلية أخيرا بمحاولة إقحام الجيش في صراعها ضد الحكومة، بخصوص أزمة التعديلات القضائية؛ فمع بداية الأزمة كان هناك حديث عن تهديد ضباط وجنود في قوات الاحتياط بالامتناع عن الخدمة العسكرية التطوّعية، لكن هذا الحديث تصاعد بدرجة كبيرة في الإعلام الإسرائيلي عشية إقرار الكنيست "بند المعقولية" وبعدها؛ حيث تؤكّد عناوين الأخبار أن مئات من جنود الاحتياط، خصوصا من الطيارين، سوف يمتنعون عن الخدمة.
ومع التسليم بوجود مشكلات حقيقية تواجه دولة الاحتلال، فإن من يطالع الصحافة الإسرائيلية، وما تنشره مراكز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلية أخيرا يلحظ مبالغة في تصوير الآثار السلبية للثورة القضائية، وتسبّبها في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، وتعريضها الأمن القومي للخطر، والجيش الإسرائيلي لاحتمالات التصدّع، وأن علاج ذلك كله يكمن في وقف التشريعات المقترحة. وما يعنينا هنا قضية إقحام الجيش، وما يتصل به من مسائل الأمن القومي الإسرائيلي، داخل الصراع السياسي، وإن ادّعى السياسيون رفضهم أن يكون الجيش طرفا فيه.
يقول الباحثون الإستراتيجيون في إسرائيل إن استمرار الحكومة في مخطّطها لإقرار التشريعات يمثل خطرا على الجيش والأمن القومي الإسرائيلي الذي يواجه مخاطر عدة، في ظل فشل المفاوضات التي كانت تجرى بين واشنطن وطهران بوساطة عُمانية للوصول إلى تفاهماتٍ بشأن تجميد تخصيب اليورانيوم، إضافة إلى توجّه دول الخليج إلى البحث عن أمنها وإعادة علاقاتها بإيران أو تحسينها نتيجة تغيّر أولويات الولايات المتحدة أخيرا. ويقول مدير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، تامير هايمان، إن إيران تزداد قوة؛ على المستوى السياسي مع دول المنطقة، وفي ملفها النووي الذي أصبح يشكّل ردعا، ولمّا تصل إلى مرحلة تخصيب اليورانيوم بعد.
استمرار الوضع في المنطقة من دون حروب هو المفضّل لدى أعداء إسرائيل، ولا يخدم المصالح الإسرائيلية
ويؤكد هايمان أن إسرائيل، حتى في الملف الفلسطيني، لا تصنع تغييرا جوهريا، لأنها مع نهاية أي مواجهة مع الفلسطينيين، مثلما حدث في جنين أخيرا، تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبلها من دون أي تغيير؛ فأزمات قوات الأمن الفلسطينية وتردّي أدائها، وضعف السلطة الفلسطينية ومشكلاتها المتراكمة، وأزمة القيادة في مرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، ومشكلات قطاع غزة، يظلّ ذلك كله كما هو من دون حلول جذرية.
ويرى هايمان أن الوضع الأمني لإسرائيل سيئ للغاية، وأنها على الرغم من بقائها القوة الإقليمية الأكبر، حسب قوله، فإن استمرار الوضع في المنطقة من دون حروب هو المفضّل لدى أعدائها، ولا يخدم المصالح الإسرائيلية؛ لأن أي حربٍ يجري خوضها توحّد الجميع، وتساعد في حل المشكلات الداخلية. ولأن أعداء إسرائيل يدركون ذلك، فإنهم يتجنبون أي مواجهة يمكن أن تؤدّي إلى حربٍ موسّعة.
ويؤكّد أكثر من متخصص في معهد دراسات الأمن القومي أن الموقف الجيوسياسي لإسرائيل يقوم على ركيزتين؛ إحداهما امتلاك جيش قوي مدعوما باستقرار داخلي، والأخرى الدعم الأميركي، وكلتاهما تتعرّضان لصعوبات كبيرة. وعلى الرغم من أن الركيزة الأولى تشهد اهتزازا في الوقت الحالي، فإن أعداء إسرائيل لن يفكّروا في خوض حرب ضدها في ظروفها هذه، لإيمانهم بأنها ستنتهي انكفاء على نفسها، وأن ساعتها أصبحت تسير إلى الوراء نتيجة اتساع الهوة بين الإسرائيليين، والتي يحاول أعداء إسرائيل تعميقها أكثر. في هذا السياق، أشار الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، ناداف إيال، إلى أن إسرائيل طلبت من روسيا التوقف عن نشاطها في التأثير على شبكات التواصل الاجتماعي في إسرائيل، وأنها لن تقدّم بالطبع طلبا مماثلا لإيران التي تقوم من خلال حسابات مزوّرة بنشر أخبار كاذبة لتفجير النقاشات، وتشويه سمعة الشخصيات من أجل توسيع الشرخ بين الإسرائيليين.
يرى المحللون الإسرائيليون أن الجيش تغيّر أخيراً، وأن سير الأزمة السياسية نحو التصعيد أدّى إلى تشكيك كل واحد في الآخر
وبالنسبة للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، يلاحظ أن الدبلوماسية الأميركية حاليا لم تعد تخفي مواقفها المتحفّظة أو الرافضة للسياسة الإسرائيلية على عكس الماضي، وأن ذلك يوحي بعمق الأزمة الحالية مع الحكومة الإسرائيلية مقارنة بأزمات الماضي. وتكاد الصحافة الإسرائيلية تجمع على أن عمق تأثير الانقسام السياسي على الجيش الإسرائيلي أكبر مما يبدو عليه الأمر في الإعلام؛ وأن الجيش، في ظل ما يبدو من انهيار لنظام الخدمة الاحتياطية، يحتاج لوضع نموذج جديد للخدمة العسكرية، النظامية والاحتياطية. وهذا بالطبع يحتاج إلى وقت، ما يعني أنه سيكون في حالة ضعفٍ غير مسبوقة، حتى تحل الأزمة السياسية، فالأمر ليس بعدد الطائرات والدبابات والسفن فحسب، بل بالجاهزية والدافعية للخدمة، وهذه الدافعية في أسوأ حالاتها حاليا، ويبرهن عليها وجود أسلحة بعينها غير مؤهلة، بحسب اللواء احتياط إسحاق بريك.
ظهر هذا القلق في أحاديث رئيس الأركان، ورئيس الاستخبارات العسكرية؛ إذ عبّرا عن أن استمرار الصراع السياسي على هذا النحو سيضرّ بالتماسك داخل الجيش بالتأكيد، والذي أصبح ملموسا طبقا لضباط كبار، ومن دونه لن يكون لإسرائيل وجود، حسب تصريحهما. وتوقعت صحف إسرائيلية أن يرفع المسؤولون في أجهزة الاستخبارات تقريرا عن خطورة الوضع السياسي على الجيش وقدراته إلى مجلس الوزراء المصغر في الأيام المقبلة.
ويقول المحلل العسكري، عمير رابوبرت، إن الجيش الإسرائيلي لن يعود إلى سابق عهده بعد تهديد عشرات من طياري الاحتياط في الجيش الإسرائيلي بعدم الخدمة إلا في حالة تجميد التعديلات القضائية. وقد نشرت صحيفة هآرتس أن لقاء جرى بين وزير الدفاع الإسرائيلي ورئيس الأركان لتقييم تأثير الأزمة على الجيش، حيث تبين تسرّب الاختلاف السياسي إلى وحدات الاحتياط، كما ألحقت الضرر بالعلاقة بين الجنود والقادة نتيجة اختلاف الموقف من الأزمة.
ويرى المحللون الإسرائيليون أن الجيش تغيّر أخيرا، ولم يعد كما في السابق، وأن سير الأزمة السياسية نحو التصعيد أدّى إلى تشكيك كل واحد في الآخر، وتقييمه على حسب موقفه، المؤيد أو المعارض، للتعديلات القضائية، وهذا تسرّب بقوة إلى كل وحدات الجيش ومعسكراته. أما طلب السياسيين إبعاد الجيش عن السجال السياسي فهو كلام غير واقعي، إذ يستحيل ألا يتسرّب إليه كل هذا الخلاف، خصوصا وأنه ليس مقسّما لوحدات عسكرية على أساس الهوية الأيديولوجية. ونتيجة لحالة الانقسام السياسي الحاد، يتوقع بعضهم تدهور مستوى الترابط على المدى المتوسط. أما على المدى البعيد، فهناك تخوّف من تراجع روح التطوّع والرغبة في الخدمة، وهما من أهم العناصر التي تسهم في كفاءة الجيش الإسرائيلي، وتجعله قويا، لأنه لا يعتمد على قوة القيادة بقدر اعتماده على رغبة جنوده في بذل كل طاقتهم، وإن كانوا يتلقون رواتب أدنى من نظرائهم خارجه.
استطاع الإعلام الإسرائيلي الذي يسيطر عليه اليسار والوسط أن يصنع حالة عامة رافضة للتعديلات، رغم منطقية بعض بنودها
ينطوي حجم الحديث عن إلصاق كل ما تواجهه إسرائيل من صعوبات بالثورة القضائية/ الانقلاب القضائي على تهويلٍ زائد في محاولة لشل حركة الحكومة، وإفشال جهود اليمين الرامية إلى تغيير بنية الدولة العميقة، يسارية الطابع، في إسرائيل. ويشار هنا إلى شهادة عضو الكنيست السابق الذي خدم أيضا في الجيش، البروفيسور أرييه ألداد، إن اليسار الذي كان يتحكّم منفردا، تقريبا، في الدولة ومفاصلها قبل 1977 عندما فاز اليمين بقيادة مناحيم بيغن بالانتخابات فيما عرف بالانقلاب السياسي، يخوض ما يشبه معركته الأخيرة من خلال المؤسّسات الأكاديمية، ووسائل الإعلام، والمؤسّسات الاقتصادية والقضاء التي ما زال يسيطر على أغلبها. يحاول في هذه المعركة منع التغيير الذي يمكن أن يقلص ذلك أيضا بسبب الهيمنة الديمغرافية المتزايدة لليمين الإسرائيلي. وتمرّ هذه المحاولة اليوم عبر إقحام الجيش في السياسة وتصعيد أخبار تهديد جنود الاحتياط بالامتناع عن الخدمة الاختيارية في الجيش، فيما يشبه الانقلاب العسكري، حتى لو لم يتم إطلاق رصاصة واحدة. ومن المؤكّد أن ذلك إذا كان مدعوما من كبار المسؤولين المتقاعدين فهو محاولة تمرّد مفتوحة. لكن يمكن القول طبقا، لألداد، إن اللعب بورقة الجيش لم يوقف التعديلات المقترحة، بل سرّعها.
ليس من السهل أن تجد في الصحافة الإسرائيلية من يسير عكس هذه الصورة المرسومة؛ فقد استطاع الإعلام الإسرائيلي الذي يسيطر عليه اليسار والوسط أن يصنع حالة عامة رافضة للتعديلات، رغم منطقية بعض بنودها. وقد ألجمت هذه الحالة غالبية المثقفين والمحللين المؤيدين لها، أو المقتنعين بضرورة التعديل، وإن اختلفوا في الأسلوب والطريقة، وفي بعض البنود، خوفا من أن تطاولهم تهم تأييد الدكتاتورية وإفساد النظام القضائي. وبالتالي، أصبح لا صوت في إسرائيل يعلو فوق صوت الرفض، على المستوى الإعلامي وقيادة المؤسسات المؤثرة في الدولة بالطبع. ومن ثم بدا الأمر وكأن الجميع مقتنع بخطورة التعديلات على الجيش والأمن القومي، من دون التفكير في أن بعض العبارات التي يوظفها الإعلام كمصطلح "تراجع كفاءة القتال" لوصف الوضع الحالي للجيش مطاطة ومضللة إلى حد كبير، حسب أرييه ألداد.
الحديث عن المبالغة إذا لا ينفي خطورة تأثير حالة الصراع السياسي الراهنة بالفعل على الجيش قيادة وأفرادا، لكن ربما كنا في حاجة للنظر إلى ما يحدث من زاوية أخرى تتجنّب هيمنة الرؤية الواحدة التي يتم ترويجها، وقد تؤدّي بنا إلى تصوّرات غير واقعية عن دولة الاحتلال.