الجامعة العربية الاقتصادية
قد يكون رد فعل بعضهم في القيادة الفلسطينية ضد جامعة الدول العربية، وأمينها العام أحمد أبو الغيط صحيحا، إلا أن مجرد استقالة الأخير لن يحل مشكلة عميقة تتجاوز الأفراد وقيادات الجامعة، فمعروف أن قوة المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي تنعكس من خلال قوة أعضائها. وكما يقول المثل "قوة أي سلسلة تنعكس بحسب قوة أضعف وصلة فيها." وهناك وصلات ضعيفة عديدة في جامعة الدول العربية التي كانت، عبر العقود الماضية، تجد في دعم القضية الفلسطينية عاملا مشتركا بين أعضائها. وعلى الرغم من أن التأييد العربي لم يتجاوز الدعم اللفظي والتبرعات لدعم الشعب الفلسطيني، إلا أنه حتى ذلك الدعم اللفظي توقف، عندما لم تستطع الدول العربية الاتفاق على نصٍ يدين عضو (الإمارات) خالف بصورة واضحة المبادرة السعودية التي حظيت بإجماع القمة العربية في العام 2002 وكل قمة منذ ذلك الوقت. وفي الفترة نفسها التي رأينا فيها خطواتٍ أحادية الجانب للتطبيع مع أحد أسوأ القادة في إسرائيل وأميركا للقضية الفلسطينية، رأينا توقفا شبه كامل (80%) من الدعم المادي العربي لفلسطين، وتباهيا من الرئيس الأميركي ترامب بأنه أوقف مساعدات بلاده لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا)، وأوقف دعم مستشفيات القدس، كي يضغط على الجانب الفلسطيني، لقبول خطته المتحيّزة لإسرائيل.
وقد يقول قائل إن مصر سبقت الإمارات والبحرين في اتخاذ قرار أكثر خطورة بالسلم المنفرد مع إسرائيل. صحيح، حيث تم آنذاك إقصاء مصر عام 1979 من جامعة الدول العربية التي انتقل مقرّها من القاهرة إلى تونس، إلا أن الأمر تمت معالجته تاليا، وعادت الجامعة إلى القاهرة عام 1989. وعلى الرغم من أن اتفاق الأردن عام 1994 لم يكن أحادي الجانب (جاء بعد إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل)، إلا أن هذا كله كان خلف العرب عام 2002، عندما تم الاتفاق على وضع حد لأي تطبيع إلى غاية إنهاء الاحتلال.
والمؤكد أن ما يجمع العرب أكثر بكثير، من ناحية اللغة والعرق والثقافة، مما يفرّقهم، ولكننا نرى أن أوروبا التي خاضت معارك شرسة قتلت الملايين استطاعت أن تتغلب على ذلك كله، وتقدّم الآن نموذجا رائعا في التحالف، يقدّم خدمة لجميع أعضائه. وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، إلا أنه من الممكن أن نستفيد من تجارب الأوروبيين.
رأينا توقفا شبه كامل (80%) من الدعم المادي العربي لفلسطين، وتباهيا من ترامب بأنه أوقف مساعدات بلاده ل "أونروا"
قد يكون من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، أن تستمر الجامعة في العمل الناجع في الجانب السياسي، بعد ما حدث، والشرخ الذي شكله قرار الإمارات والبحرين إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، والذي قد يتخذ السودان مثله قريبا. وعلى الرغم من كل ما جرى، يجب أن لا يتم التنازل عن ضرورة وجود إطار جامع للعرب، غير أنه قد يكون مهما أن تتم العودة إلى الأسس التي كانت سبب وجود اتحاد للدول العربية. ونظرة سريعة على الوضع الاقتصادي البيني بين دول الجامعة يوضح أهمية التفكير الأساسي في مجال التعاون المالي الضرائبي والجمركي. كما ولا بد من تقوية خطوط الاتصال الأرضي والبحري والجوي بين الدول العربية. والاتحاد الأوروبي، كما نعرفه اليوم، بدأ أولا اتحادا للسوق الاقتصادية الأوروبية لعشر دول، ثم تم توسيعه عددا ونوعا، إلى أن أصبح يضم 28 دولة أوروبية تتكلم بلغات مختلفة، ولها اختلافات عرقية وغير ذلك، ولكن الاقتصاد وحّدها.
وفي حال تم تخفيض الأهداف السياسية لجامعة الدول العربية، واستبدالها بأهداف اقتصادية، فمن الممكن التوصل إلى نتائج سريعة، لكن ذلك يتطلب أيضا تعاونا وزيادة كبيرة في اللقاءات على مستوى الرئاسة، غير أن القمم العربية، غالبا، ما تنطوي على مظاهر وشكليات كثيرة، وقرارات ومداولات حقيقية قليلة، بينما تعقد نظيراتها الأوروبية من أجل حل الخلافات، لا التهرّب منها. وبشأن القمم الأوروبية، كانت منذ عام 1975 تعقد ثلاث مرات سنويا، وما بين 1996 ـ 2007 أصبحت تعقد على الأقل أربع مرات، وبين 2008 و2016 ارتفع معدل اللقاءات الأوروبية على مستوى القمة إلى سبع مرات سنويا، وفي 2017 انعقدت القمة الأوروبية تسع مرات، ومنذ 2018 انعقدت خمس مرات. وقد نما الاتحاد الأوروبي من سوق مشترك إلى نظام سياسي ومالي يضاهي التكتلات العالمية كافة. ويشكل مبدأ الحوار والتفاهم وتقبل الآخر قاعدة أساسية سمحت لهذا التطور المذهل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي. ونحن في العالم العربي، وفي مؤسسة جامعة الدول العربية، في أمسّ الحاجة إلى استنساخ هذا الأسلوب الناجع، والمبني على مبدأ في غاية البساطة، وهو احترام الآخر والبحث عن القواسم المشتركة، بدل الانقسامات التي تفرّقنا.