الثورة والاستقطاب
لعلَّ من الطبيعي وجود استقطابات في تكوين أجسام سياسية مستقلة منفصلة عن الدولة في أي وقتٍ من عمر الدولة، خصوصا في الأوقات التي تكون فيها الدولة في طور النشأة أو التغيّر والانتقال من حالة إلى حالة "المراحل الانتقالية". وفي المقابل، ليس من الطبيعي، أو غير مقبول على أقّل تقدير، وجود استقطاب بدرجةٍ من الدرجات داخل مؤسسات الدولة الواحدة، خصوصا إذا كان هذا الاستقطاب يصل إلى درجة عالية من الحدّة والتباين، باعتبار أن ذلك مؤشّر حادٌّ على وجود التباعد في المواقف السياسية، لتصل نتائجه إلى الانقسام والتنافر، الأمر الذي يؤدّي إلى الفشل في إدارة الدولة، بما ينعكس سلبا على استقرارها، الأمر الذي يؤدّي إلى نشوء الصراعات والنزاعات فيها، قد يتعدّى الاستقطاب السياسي إلى الصراع العسكري، وصولاً إلى خياراتٍ حرجه، من عسكرة الدولة، أو تقوية الثورة المضادّة فيها. وبالتالي، قد تفقد الثورة بوصلتها، وتحتاج بعدها وقتا طويلا للعودة إلى مربع انطلاقتها.
عود على بدء .. في الثورات العربية المختلفة التي قامت في 2011، كان للاستقطاب الداخلي دور فعّال في هدمها أو بنائها، أو على أقل تقدير عدم سقوطها، غير أنه، في جميع الأحوال، كان له أثر سيئ في عدم استقرار "دولة الثورة". وليبيا خير شاهد على ذلك على مدى عقد، أخذت فيه الاستقطابات الداخلية مأخذها في النخر في تأسيس الدولة، ناهيك عن استقرارها، ابتداء من البرلمان التشريعي الأول بعد الثورة، المتمثل في المؤتمر الوطني العام، والحكومات التي اعتمدها، والخيارات التي ارتضاها في ذلك تحيّزا أو استقطابا، وصولاً إلى مرحلة إنتاج البرلمان والاستقطاب الحاد الذي دخل فيه وعليه، ناهيك عن الاستقطاب المصاحب لحكم المحكمة ببطلان البرلمان، والإجراءات القانونية التي أوجدته، المتمثلة في لجنة فبراير آنذاك، والمنشأة من المؤتمر الوطني العام، ليستمر هذا الاستقطاب، وصولاً إلى الاتفاق السياسي (اتفاق الصخيرات)، والذي على أثره تسير البلاد اليوم، بما حدث فيه من تعديلاتٍ وتغيرات، لعل الأبرز في ذلك هو السير نحو انتخابات في البلاد في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
ليس من الطبيعي، أو غير مقبول على أقّل تقدير، وجود استقطاب بدرجةٍ من الدرجات داخل مؤسسات الدولة الواحدة
في الآونة الأخيرة، وجد في ليبيا استقرار نسبي، بعد إنتاج مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية موحدة للبلاد، غير أن هذا الاستقرار لن يستمر طويلاً، في ظل التجاذبات السياسية والأمنية المتغيرة للبلاد، بمحاذاة الاستقطابات والاصطفافات التي توجد فيها، وتتشكل وتُعيد نفسها بين فترة وأخرى، ولعل هذا الاصطفاف والاستقطاب يجد اليوم ملاءمةً أكثر له في وطن مزّقته الاختلافات والصراعات، خصوصا أنه على طريق تجديد الشرعية والانتخاب!
ما تشهده ليبيا، ومجتمعات الربيع العربي اليوم، هو حالة من الاستقطاب الداخلي المتغذّي من الاستقطابات الخارجية، المقرونة بالمصالح الإقليمة تارة، والدولية تارة أخرى. وبالتالي، فإن ذلك سيؤدي إلى نتائج سياسية مختلفة عما سبقها، بل وتشكيل أطر سياسية جديدة، بطريقةٍ أو أخرى. كما أن الراجح، في الحالة الليبية مثلاً، المزيد من السير نحو نمط حالة عدم الاستقرار، ربما تكون نتائجه تغييرا في الموازين والمجريات، خصوصا في ظل انفتاح في النظرة الإقليمية لدول الجوار، باعتبار أن الأزمة الليبية، بمنعطفاتها المختلفة، العسكرية منها والأمنية، أحد أبرز العوامل التي تؤثّر على الدول المجاورة لها، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً؛ وبالتالي: من الطبيعي تدخلها المباشر وغير المباشر في هذه الأزمة، ناهيك عن الاستقطاب والاصطفاف "السلبي" الذي اتخدته بعض الدول لتحقيق مصالحها، غير أن الواقع العملي اليوم جعلها تدرك أن ذلك الاستقطاب والاصطفاف السلبي بدل أن يحقق لها مصالحها، جعلها تفقد مصالحها المتبادلة، والتي ستحقق لها الثورة في ليبيا أكثر مما ستناله من دعم الثورة المضادّة. وبالتالي، إن لم يتغير الاصطفاف والاستقطاب جذرياً، فإنه سيتجه إلى شيءٍ من الموازنة والملاءمة، الأمر الذي قد يقود إلى توافق، ولو كان جزئيا، في بلورة رؤية إقليمية، يمكن من خلالها رسم مسار محدّد، قد يخفّف من هذا الاستقطاب والاصطفاف، والأحداث اليومية المتتالية خير مثال على ذلك.
عموما، التعبير بالاستقطاب لا يعني، في المجمل، وصمة سلبية للمشهد السياسي في دول الثورات العربية، بقدر ما هو توصيف لعله يكون "موضوعيا" لقراءة (أو إدراك) المشهد الداخلي لتلك الدول أو الدولة من جهة، وقراءة المشهد الخارجي والتقلبات المصاحبة له في ظل السياق الإقليمي والدولي المؤثر فيه من جهة أخرى.