الثورة التونسية والدرس المصري
شاركتُ في الأسبوع الثاني من شهر فبراير/ شباط الجاري في ندوة دولية، استمرت ثلاثة أيام، عن الثورة التونسية وتحولاتها السياسية بعد مرور 11 عاماً على انطلاقها، ومن بين المصطلحات التي تردد استخدامها كثيراً بين المشاركين "الدرس المصري". حيث ذهب بعضهم إلى أن قوى الثورة التونسية، وخاصة حركة النهضة، قد استوعبت الدرس المصري بعد انقلاب 2013، الذي قام به العسكر في مصر ضد نظام الرئيس الراحل محمد مرسي، وأن هذا الاستيعاب تمثل في اتجاه الحركة، وحلفائها من قوى الثورة، إلى خفض سقف التوقعات في ما يتعلق بالتغيير الجذري الشامل في البلاد، والاتجاه نحو سياساتٍ أكثر توافقية وتراجعية وتصالحية واحتوائية مع مختلف التيارات السياسية في البلاد، بما فيها قوى الثورة المضادّة، وبقايا النظام السابق الذي قامت ضده الثورة في ديسمبر/ كانون الأول 2010. وكذلك اتجاه "النهضة" إلى "تحجيم دورها وإعادة التموضع في المشهد السياسي الداخلي، وقبول الحوار الوطني"، إلا أن هذا التحجيم وذلك التموضع، وخرائط التحالفات التي تشكلت في تونس بعد انقلاب مصر 2013، لم تكن كفيلة أو كافية للحيلولة دون وقوع انقلاب في تونس في يوليو/ تموز 2021.
طرح هذا الأمر السؤال الكبير: هل فعلاً استفادت القوى الثورية التونسية من الدرس المصري، وهل استفادت حركة النهضة التونسية فعلاً من الدرس الذي تعرّض له الإخوان المسلمون في مصر؟ الإجابة أن هذه القوى، ومن بينها "النهضة"، لم تستفد من الدرس، وأن كل ما حدث هو تأجيل الانقلاب على قوى الثورة التونسية، عدة سنوات إضافية، فشلت خلالها هذه القوى في تعزيز حواضنها الشعبية، وبناء قواعد لنظام سياسي جديد، على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على مشاركتها في الحكم، ووجودها العددي البارز في مختلف مؤسسات الدولة التونسية.
ويمكن الوقوف على مؤشرات فشل هذه القوى في استيعاب الدرس المصري، ومن ذلك:
أولا، الدرس السياسي: عدم استيعاب الدرس المصري في بناء التحالفات الحقيقية بين القوى الثورية والنخب الجديدة التي أفرزتها الثورة، واتجاه القوى السياسية إلى بناء تحالفاتٍ طاولتها شبهات فساد سياسي، وخلفيات تاريخية سلبية، باعتبارها كانت تمثل أركان منظومة زين العابدين بن علي، وأصبح لسان حال المواطن التونسي أن كل ما تم هو إزاحة جزء من نخبة فاسدة، وإحلاله بجزء جديد ليس بعيداً عن الفساد والتسلط.
القوى الثورية لم تفقد فقط شعبيتها السياسية، بل تراجعت قواعدها وحواضنها الأساسية، وأصبحت عرضةً لمزيد من التفكّك والانقسام والتشرذم
ثانيا، الدرس الإعلامي: كان أحد أهم دروس الثورة المصرية والانقلاب العسكري عليها تأكيد أهمية دور الإعلام ومركزيته، بصوره وأدواته المختلفة، وخصوصا التلفزيونية والإذاعية والصحافية وشبكات التواصل الاجتماعي، بدليل أن تقارير تحدثت عن إنفاق ما يعادل نحو ستة مليارات دولار في عام فقط، لتشويه صورة الثورة المصرية ونظام مرسي، وإشعال الحرائق والصراعات في كل الملفات الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وهو ما لم تستفد منه قوى الثورة التونسية، فلم تبن إعلاما قويا احترافيا فاعلا، في وقتٍ استثمرت قوى الثورة المضادّة وحلفاؤها الإقليميون في بناء آلة إعلامية كاسحة وحدوث حالة، وصفتها إحدى أوراق الندوة بـ"التضخم السمعي والبصري"، مع ظهور نحو "13 قناة تلفزيونية، و25 محطة إذاعية" في أقل من عام، ودعم عشرات من حسابات التواصل الاجتماعي في وقت يوجد نحو ستة ملايين حساب تونسي على "فيسبوك" الذي أصبح يوجّه الرأي العام ويهيمن على عقول معظم التونسيين. وفي المقابل، اتسم إعلام القوى الثورية، ومنها حركة النهضة، بسلبيات وتحدّيات عديدة، من بينها: الفشل مهنياً، العجز مادياً، غياب الرؤية، افتقاد الخبرة، تراجع المتعاطفين، فقدان الحواضن الشعبية، عدم فهم قوانين اللعبة السياسية والإعلامية، وسوء إدارة الموارد المالية، وضعف الخبرات البشرية، وكذلك "التخلف في مجال صناعة الصورة ومعركة الرموز".
وكانت النتيجة الطبيعية لكل هذه السلبيات، أن القوى الثورية لم تفقد فقط شعبيتها السياسية، بل تراجعت قواعدها وحواضنها الأساسية، وأصبحت عرضةً لمزيد من التفكّك والانقسام والتشرذم، والمتضرّر الأكبر هو حركة النهضة، باعتبارها الحركة الأكبر حجماً وانتشاراً وبروزاً في المشهد التونسي منذ 2011.
تتحرّك "النهضة" وأخواتها تحت سقف أنه سيكون هناك دعم دولي لها، لأنها تدافع عن الديمقراطية والحقوق والحريات
ثالثا، الدرس الدولي: لم تستوعب حركة النهضة وحلفاؤها الدرس المصري في الرهان على العامل الدولي، والقائل إن الأطراف الدولية يمكن أن تدعم التحولات الديمقراطية، وتحافظ على الانتقال الديمقراطي في تونس، فما زال هذا الرهان الخاسر مستمراً، وتتحرّك "النهضة" وأخواتها تحت سقف أنه سيكون هناك دعم دولي لها، لأنها تدافع عن الديمقراطية والحقوق والحريات. وتجاهلت الحركة وأخواتها أن الأطراف الإقليمية والدولية باركت عصف العسكر بالثورة المصرية، على الرغم مما شهدته مصر من حراك سياسي فاعل، ومؤشّرات قوية على تحولات وممارسات ديمقراطية خلال عامي 2011 و2012 وحتى منتصف 2013، بل إن بعضاً من هذه الأطراف كانت المخطّط والموجه والممول لانقلاب 2013 في مصر.
رابعا، الدرس الاقتصادي: من بين الرهانات الخاسرة التي تراهن عليها "النهضة" وأخواتها الأزمة المالية وتردّي الأوضاع الاقتصادية التي يواجهها نظام قيس سعيّد، وأن هذه الأزمة وذلك التردّي كفيل بإسقاطه. وهي بذلك لم تستفد من الدرس المصري، حيث راهنت القوى الثورية في مصر على مثل هذا العامل، ولثماني سنوات مضت، تتحدّث هذه القوى عن الانهيار الاقتصادي في مصر، وتضخم الديون وتضخم الأسعار وسياسات الإفقار المتعمد التي يمارسها النظام المصري ضد المواطنين، وأن من شأن ذلك أن يؤدّي إلى سقوط النظام. وهذا الرهان غير دقيق، فهو وإن كان يثير إشكالية في غاية الأهمية، وهي موقع العامل الاقتصادي في الثورات الشعبية، إلا أنه يتجاهل أن النظم الاستبدادية والتسلطية، وخصوصا التي جاءت بانقلابات عسكرية، تقف خلفها منظومات إقليمية ودولية، لا تتوقف عن ضخّ مليارات الدولارات سنوياً تحت مظلات مختلفة للحفاظ على بقاء واستمرار هذه النظم.
ما زالت حركة النهضة وأخواتها عاجزات عن القيام برد فعل بنائي حقيقي يحول دون هيمنة الانقلابيين على مقاليد الأمور
خامسا، الدرس العسكري: لم تستوعب حركة النهضة وأخواتها الدرس المصري في إدارة العلاقات المدنية ـ العسكرية، حيث كثر الحديث في تونس عن احترافية المؤسّسات الأمنية والعسكرية، وعدم تدخلها في العمل السياسي، وأنه تم تحييدها، وأنها لا تمثل خطراً على الثورة وأهدافها، وتجاهلت أن هذا غير دقيق ولم تثبت صحته في المشهد المصري أو غيره من مشاهد، وأن الأمر لا يعدو كونه اكتساب مزيد من الوقت لضمان التحكّم والسيطرة. ومن هنا، لم تتعاط "النهضة" وأخواتها بفاعلية مع ممارسات قيس سعيّد نحو الهيمنة على الأجهزة الأمنية والعسكرية، من خلال تكثيف زياراته للثكنات العسكرية، والسعي نحو تعيين وزير داخلية موال له، وإعلان أنه رئيس جميع القوات الحاملة للسلاح، وإقصاء كل من عمل مع وزير الداخلية النهضوي السابق علي العريض، وتبنّيه سياسة "التقاعد الوجوبي" في مواجهة كل رافضي سياساته وتوجهاته في هذه الأجهزة.
سادسا، الدرس البنيوي: لم تستوعب حركة النهضة وأخواتها الدرس الكبير للتحوّل في مصر، أن قوى الثورة المضادّة ونظم الانقلابات (عسكرية أو دستورية) لا تستهدف قوى الثورة سياسياً فقط، ولكنها تستهدفها أيضاً فكرياً وثقافياً وإعلامياً وأمنياً وقضائياً ومؤسساتياً وقانونياً وتشريعياً، في إطار استراتيجية كبرى يتم التعبير عنها اصطلاحاً بمفهوم "استراتيجية تجفيف المنابع"، وهي الاستراتيجية التي تبنتها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث "11 سبتمبر" في 2001، وطبّقها نظام عبد الفتاح السيسي في مصر حرفياً بعد انقلاب 2013، ويتبنّاها قيس سعيّد فعلياً بعد انقلاب 2021، في وقتٍ ما زالت "النهضة" وأخواتها عاجزات عن القيام برد فعل بنائي حقيقي يحول دون هيمنة الانقلابيين على مقاليد الأمور في البلاد، خطوة بخطوة على خطى ما حدث في مصر.