08 نوفمبر 2024
الثورةُ المضادة والعقدةُ التونسية
تطرح العملية الإرهابية في تونس أخيرا علامات استفهام كثيرة، تخص توقيتها، والأطرافَ المستفيدة منها داخليا وإقليميا، وعلاقتها بمسار التحول الديمقراطي، في ضوء ما أفرزته الانتخابات البلدية من معطيات. وعلى الرغم من هشاشة هذا المسار، وضعف التغطية الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بتعزيزه، إلا أن النخب التونسية، بمختلف مكوناتها، ما زالت تمتلك، على ما يبدو، حدا أدنى من الإصرار على الحفاظ على هذا المكسب، في محيط إقليمي معادٍ للديمقراطية والحرية. وبقدر ما يُحيل هذا على الصعوبات الداخلية التي يواجهها هذا المسار، بقدر ما يحيل، كذلك، على دور العوامل الخارجية في محاولة تعطيله وإعاقة دينامياته. وإذا كان تنظيم القاعدة قد تبنّى هذه الجريمة التي استهدفت دوريةً للحرس الوطني في منطقة
جندوبة، فذلك لا يمنع من وضعها في سياقها العام، بما يمكن أن يضيء بعض ما تحيكه القوى الخارجية ضد الديمقراطية التونسية الفتية.
لا حاجة للتذكير بأهمية الانتخابات البلدية في تطور الاجتماع السياسي، سيما في مراحل التحول الديمقراطي، فإذا كانت الانتخابات البرلمانية شأنا يرتبط بالتوافقات الوطنية الكبرى التي تواكب عملية التحول، فإن الانتخابات البلدية تختلف، من حيث إنها تعكس طورا آخر في تجذير هذا التحول، من خلال ربطه بالسياسة، بما هي اشتباكٌ متواصلٌ ومتجددٌ بالمشكلات التي يواجهها الناس في معيشهم اليومي، والتي تظل بحاجةٍ لحلول نابعة من الواقع.
من هنا، كان نجاح الانتخابات البلدية في تونس بمثابة رسالةٍ إلى قوى الثورة المضادة في المنطقة بأن التقاطبات السياسية والحزبية الحادة التي يشهدها هذا البلد العربي لن تزيد أبناءه إلا إصرارا على تجذير مسار التحول الديمقراطي وحمايته، والمضي به نحو الأمام. وعلى الرغم من أن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات كانت متدنية، إلا أن التونسيين تَوفَّقوا في جعل هذا الاستحقاق يفرز عائداته السياسية، وهو ما تبدّى، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، في تمكّن حركة النهضة من اختراق مواقع انتخابية جديدة، ما يؤشر إلى قدرتها على التكيف مع ما يستجد حولها من ضغوط متعدّدة المصادر، هذا فضلا عن فوزها اللافت برئاسة بعض البلديات، كما هو الشأن بالنسبة لتونس العاصمة. وإذا أضيف إلى ما سبق، ما تردد قبل فترةٍ عن انقلابٍ عسكريٍّ كان يُعد له وزيرُ الداخلية السابق، لطفي براهم، بدعم سعودي وإماراتي، فإن توقيت هجوم جندوبة يطرح علامات استفهام كبرى ودالة.
سجّلَ الإسلاميون التونسيون نقطة أخرى لصالحهم، بقدرتهم على تحويل هذه الضغوط إلى مداخل لتوسيع التوافق الوطني، وإبدائهم قدرا لافتا من المرونة في مواجهة خصومهم. كانت هذه الانتخابات منعطفا آخر، أبرز قدرتهم على التعاطي بإيجابيةٍ مع ما يستجد في المشهد السياسي، الأمر الذي يمكن اعتباره خطوةً على قدر من الدلالة، في اتجاه القطع النهائي مع الطابع الإيديولوجي والدعوي الذي طبع أداء قطاع واسع من الإسلام السياسي المعتدل في المنطقة العربية.
بهذا المعنى، تربك الحالة التونسية خيارات قوى الثورة المضادة في المنطقة، وفي مقدمتها النظام المصري، فلم يتوان الأخير، منذ انقلابه المعلوم، في جعل محاربة جماعة الإخوان المسلمين واجتثاثها بشتى السبل أحد مصادر شرعيته، إن لم يكن المصدر الوحيد. وسخَّر لذلك مختلف وسائل الإعلام الرسمي، ضمن مشروع إقليمي واسع، يستهدف دفن حلم الديمقراطية في المنطقة إلى الأبد. ولذلك، فإن سعي النخب التونسية، أو جزء منها على الأقل، نحو بث ديناميات جديدة في مسار التحول الديمقراطي، كما هو الشأن بالنسبة للانتخابات البلدية، يُمثل ضربةً موجعة لهذه القوى التي تتربّص بهذا المسار، وتعمل كل ما في وسعها على استغلال تناقضاته، وتوظيفها بغاية الإجهاز عليه.
في السياق نفسه، فإن تراجع تنظيم الدولة الإسلامية، وفقدانه كثيرا من فعاليته، بعد اندحاره في العراق وسورية وليبيا، قد يكون دفع مُمَوِّلي الثورة المضادة في المنطقة إلى التفكير في إعادة بناء تنظيم القاعدة في المغرب العربي، بغاية خلط الأوراق في تونس، وبث حالةٍ من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، تكون مقدمة لترويج الخيار المصري، باعتباره ''الحل الأنسب والأسلم'' للخروج من الأزمة. لا يُستبعد أن يكون هؤلاء المُمولون قد راهنوا على فشل هذه الانتخابات لإيجاد ثغرةٍ، تمكّنهم من إجهاض مسار التحول الديمقراطي في تونس. ولذلك لم يجدوا أفضل من الإرهاب لإحداث حالةٍ من الإحباط واليأس داخل الشارع التونسي، مستغلين نقمته على أداء النخب، خصوصا فيما يتعلق بالجانبين، الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وبالتالي، ترجيح خيار الانقلاب العسكري، ووضع حَدٍّ ''للكابوس التونسي".
مؤكدٌ أن بال الاستبداد العربي الجديد لن يهدأ حتى يوقف التونسيون هذا المسار، ويعودوا إلى ''رشدهم''، ويستعيضوا عن ديمقراطيتهم الوليدة والطموحة بنظام استبدادي في حلةٍ جديدة، تتماشى مع متغيرات ما بعد الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي في مصر قبل خمسة أعوام. ولذلك، لا مبالغة في القول إننا إزاء عقدة تونسية واضحة، تقف حجر عثرة أمام قوى الثورة المضادة في المنطقة، وتَحول بينها وبين الإغلاق النهائي لقوس الربيع العربي، والعودة إلى ما قبل سنة 2011.
لا حاجة للتذكير بأهمية الانتخابات البلدية في تطور الاجتماع السياسي، سيما في مراحل التحول الديمقراطي، فإذا كانت الانتخابات البرلمانية شأنا يرتبط بالتوافقات الوطنية الكبرى التي تواكب عملية التحول، فإن الانتخابات البلدية تختلف، من حيث إنها تعكس طورا آخر في تجذير هذا التحول، من خلال ربطه بالسياسة، بما هي اشتباكٌ متواصلٌ ومتجددٌ بالمشكلات التي يواجهها الناس في معيشهم اليومي، والتي تظل بحاجةٍ لحلول نابعة من الواقع.
من هنا، كان نجاح الانتخابات البلدية في تونس بمثابة رسالةٍ إلى قوى الثورة المضادة في المنطقة بأن التقاطبات السياسية والحزبية الحادة التي يشهدها هذا البلد العربي لن تزيد أبناءه إلا إصرارا على تجذير مسار التحول الديمقراطي وحمايته، والمضي به نحو الأمام. وعلى الرغم من أن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات كانت متدنية، إلا أن التونسيين تَوفَّقوا في جعل هذا الاستحقاق يفرز عائداته السياسية، وهو ما تبدّى، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، في تمكّن حركة النهضة من اختراق مواقع انتخابية جديدة، ما يؤشر إلى قدرتها على التكيف مع ما يستجد حولها من ضغوط متعدّدة المصادر، هذا فضلا عن فوزها اللافت برئاسة بعض البلديات، كما هو الشأن بالنسبة لتونس العاصمة. وإذا أضيف إلى ما سبق، ما تردد قبل فترةٍ عن انقلابٍ عسكريٍّ كان يُعد له وزيرُ الداخلية السابق، لطفي براهم، بدعم سعودي وإماراتي، فإن توقيت هجوم جندوبة يطرح علامات استفهام كبرى ودالة.
سجّلَ الإسلاميون التونسيون نقطة أخرى لصالحهم، بقدرتهم على تحويل هذه الضغوط إلى مداخل لتوسيع التوافق الوطني، وإبدائهم قدرا لافتا من المرونة في مواجهة خصومهم. كانت هذه الانتخابات منعطفا آخر، أبرز قدرتهم على التعاطي بإيجابيةٍ مع ما يستجد في المشهد السياسي، الأمر الذي يمكن اعتباره خطوةً على قدر من الدلالة، في اتجاه القطع النهائي مع الطابع الإيديولوجي والدعوي الذي طبع أداء قطاع واسع من الإسلام السياسي المعتدل في المنطقة العربية.
بهذا المعنى، تربك الحالة التونسية خيارات قوى الثورة المضادة في المنطقة، وفي مقدمتها النظام المصري، فلم يتوان الأخير، منذ انقلابه المعلوم، في جعل محاربة جماعة الإخوان المسلمين واجتثاثها بشتى السبل أحد مصادر شرعيته، إن لم يكن المصدر الوحيد. وسخَّر لذلك مختلف وسائل الإعلام الرسمي، ضمن مشروع إقليمي واسع، يستهدف دفن حلم الديمقراطية في المنطقة إلى الأبد. ولذلك، فإن سعي النخب التونسية، أو جزء منها على الأقل، نحو بث ديناميات جديدة في مسار التحول الديمقراطي، كما هو الشأن بالنسبة للانتخابات البلدية، يُمثل ضربةً موجعة لهذه القوى التي تتربّص بهذا المسار، وتعمل كل ما في وسعها على استغلال تناقضاته، وتوظيفها بغاية الإجهاز عليه.
في السياق نفسه، فإن تراجع تنظيم الدولة الإسلامية، وفقدانه كثيرا من فعاليته، بعد اندحاره في العراق وسورية وليبيا، قد يكون دفع مُمَوِّلي الثورة المضادة في المنطقة إلى التفكير في إعادة بناء تنظيم القاعدة في المغرب العربي، بغاية خلط الأوراق في تونس، وبث حالةٍ من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، تكون مقدمة لترويج الخيار المصري، باعتباره ''الحل الأنسب والأسلم'' للخروج من الأزمة. لا يُستبعد أن يكون هؤلاء المُمولون قد راهنوا على فشل هذه الانتخابات لإيجاد ثغرةٍ، تمكّنهم من إجهاض مسار التحول الديمقراطي في تونس. ولذلك لم يجدوا أفضل من الإرهاب لإحداث حالةٍ من الإحباط واليأس داخل الشارع التونسي، مستغلين نقمته على أداء النخب، خصوصا فيما يتعلق بالجانبين، الاقتصادي والاجتماعي والأمني، وبالتالي، ترجيح خيار الانقلاب العسكري، ووضع حَدٍّ ''للكابوس التونسي".
مؤكدٌ أن بال الاستبداد العربي الجديد لن يهدأ حتى يوقف التونسيون هذا المسار، ويعودوا إلى ''رشدهم''، ويستعيضوا عن ديمقراطيتهم الوليدة والطموحة بنظام استبدادي في حلةٍ جديدة، تتماشى مع متغيرات ما بعد الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي في مصر قبل خمسة أعوام. ولذلك، لا مبالغة في القول إننا إزاء عقدة تونسية واضحة، تقف حجر عثرة أمام قوى الثورة المضادة في المنطقة، وتَحول بينها وبين الإغلاق النهائي لقوس الربيع العربي، والعودة إلى ما قبل سنة 2011.