الثورات ونظم الحكم في المؤشّر العربي
بعد مصائر مؤسفة للثورات العربية، وما تزدحم به المنطقة من تغيرات وتبدّل في التحالفات، وتعاظم مخاطر على مستويات عدة داخلية وخارجية، نحتاج إلى قراءة حقيقية للرأي العام، ضمن أدواتها، الاستطلاعات الميدانية بوصفها أحد أدوات القياس، وتتعاظم فوائدها اليوم، نظراً إلى الحاجة لتجاوز آثار حروب ورسائل إعلامية متضاربة بشأن مواقف الشعوب، وتقديرات الرأي العام، كان ضمن أهدافها، التلاعب والتزييف، والسيطرة على الشعوب وتوجيهها، وسحب الثقة منها، وإزاحة وتبديد بوادر أمل تدفق حول قدرتها على التغيير، وكذلك طمس آمالها وطموحها وصلابة موقفها خلال الثورات العربية، ضد فساد نظم سلطوية الطابع متجبرة ومتعالية، عادت اليوم بصور مختلفة، تتفنّن في الخداع، وترسم عن نفسها وشخوصها صورا زائفة، بوصفها منقذه للشعوب، بينما معارضو النظم، يتم تصويرهم إرهابين أو خونة، أو في أحسن الأحوال جهلة، المشهد الواضح في نموذجين للموجة الأولى للثورات، مصر وتونس، بما فيهما من نتائج مؤسفة سياسيا واقتصاديا بعد ارتداد المسار.
ولا يختلف الأمر كثيرا، في ما يخص سلطوية تتمادى خطاها في الجزائر، غير انقلابٍ دموي في السودان، ما زال يباشر ممارسة الجرائم، ومأساة متنوّعة الأوجه في لبنان والعراق والسودان ضمن بلاد الموجة الثانية للثورات، وهي الأبرز تعبيراً في ما يخصّ أزمتي مؤسسات الدولة والاقتصاد ومعدلات الفساد ومدى تطبيق القانون
وفي المؤشّر العربي للعام 2022، والذي أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نتائجه أخيرا، مرتكزاتٌ ومساحاتٌ مهمّة للتبصر، بل وفي بعضها ولا مبالغة أو تفكير بالتمنّي، حين نقول مساحات للأمل، ذلك عبر كشف للتوجهات ومواقف الشعوب من قضايا مركزية، بينها إيمان أغلب المواطنين بالديمقراطية، ما يزيد عن 70% من المستجيبين، منهم 45% وصفوها كنظام حكم ملائم جداً، وفي مقاربة لهذا الاتجاه، يرفض 68% نظام الحكم السلطوي، وما يزيد عن 60% يرفضون حكم أحزاب إسلامية، ويرفض نحو 53% تولي قادة عسكريين الحكم.
حظي التقييم الإيجابي للثورات بنسب غالبة، خلال مؤشر 2022، وكانت العليا في إقليم وادي النيل، بنسبة 62%
ولا تنفصل المؤشرات التي تتعلق بالحريات والأوضاع العامة الاقتصادية والاجتماعية عن اتجاهات الرأي نحو الثورات العربية، أسبابها وآثارها ومستقبلها، فقد حظي التقييم الإيجابي للثورات بنسبٍ غالبة، خلال مؤشر 2022، وكانت العليا في إقليم وادي النيل، بنسبة 62%، بينما على مستوى الدول، كانت الكويت الأولى في تأييد الثورات بنسبة 76% تليها مصر بنسبة 73%، على الرغم من أنّ الأولى لم تشهد ثورة، وإن كان بدأ فيها حراك نشط مع الثورات العربية خلال 2011، وربما وجود برلمان هو الأقدم في تجربة المؤسسات التمثيلية حديثة النشأة في دول الخليج عامل مؤثر هنا، وهذه النتيجة اللافتة، تشير إلى فاعلية في الكويت، وجب الانتباه لها، ويمكن ملاحظتها في مؤشرات أخرى، كما مؤشّر اهتمام الجمهور وثقته بالأخبار والمعلومات التي تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك استخدام وسائل التواصل في التعبير والتفاعل مع قضية سياسية، إذ كان 48% من مواطني الكويت و43% من مواطني مصر يعبرون عن ثقتهم فيها، مقابل أكثرية من مستجيبي البلدان الأخرى عبّرت عن عدم ثقتها. كذلك، يأتي مواطنو الكويت ومصر من ضمن الأكثر متابعة لحسابات المؤثّرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وكلاهما إلى جانب دول الثورات العربية (تونس ولبنان والعراق والسودان وباستثناء الجزائر) يعتبرونها وسائل جيدة للتعبير عن الرأي، ذلك بنسب تتراوح بين 33 و44%، غير أنها وسائل لتقريب الشعوب. كذلك، ترتفع في مصر والكويت والسودان نسب المستجيبين الذين عرّفوا الديمقراطية بوصفها ترسيخاً لقواعد ومؤسسات الحكم الديمقراطي من تداول السلطة والرقابة إلى الفصل بين السلطات.
ورغم مرحلة تعثّر تمر بها الثورات العربية، حسب 40% من المستجيبين، إلّا أنها ستحقّق أهدافها في نهاية المطاف، مقابل 39 % يرون أنّها انتهت وعادت الأنظمة السابقة للحكم، وكان إقليم وادي النيل، الأكثر أملاً في تحقيق أهداف الثورة، هذا حسب ما أفاد 50% منهم، بينما المشرق العربي كان الأقل، بنسبة 32%، ذلك يمكن تفسيره، بسبب معضلة النظم طائفية الطابع وانقسام مكوناتها السياسية بشكل بالغ، أي في علاقة الثورة والاحتجاج بمفهوم الدولة وبنائها وإدارتها. أما على مستوى الدول، فتصدر الكويتيون شعلة الأمل، فنحو 72% منهم أقرب إلى أنّ الثورة متعثّرة لكن ستحقق أهدافها، بينما يميل 53% من المصريين إلى هذا الرأي، يليهم مواطنو السودان بنسبة 48% وتونس بنسبة 46%.
يتضح لدى المستجيبين، تأييد عربي غالب للديمقراطية، ورغبة في وجود هيئات تمثيل حقيقية، ورفض لانتقال السلطة عبر الانقلابات
عموماً، وكأثر لنتائج إقليم المشرق العربي (الأقل تقديراً لتحقيق الثورات أهدافها) وبعد مرور سنوات طويلة من دون تغيرات ترضي طموح الشعوب، تراجعت نسب من يعتبرون أن الربيع العربي سيحقق أهدافه، وكانت سجلت خلال 2014 نسبة 60% من المستجيبين في الأقاليم العربية. وكانت أقل التقييمات سلبية للثورات في مرحلتين، الأولى، خلال تقرير المؤشّر العربي 2012/ 2013 حين بلغت 22%، والثانية في نسخة المؤشّر 2019/ 2020 وقد كانت 28%، وكلا المؤشرين مرتبطان بتأثيرات تفجر الحراك، في الموجتين، الأولى والثانية، وتشير إلى مراهنة المستجيبين على الحراك كأداة لتحسين الوضع السياسي والاقتصادي.
ويتضح لدى المستجيبين، تأييد عربي غالب للديمقراطية، ورغبة في وجود هيئات تمثيل حقيقية، ورفض لانتقال السلطة عبر الانقلابات، وحكم النظم السلطوية، والاستبدادية الديني والعسكري. وضمن النتائج ارتباط بمفهوم واسع للديمقراطية، وتقييمٌ سلبي لمستوى الحريات والحقوق المدنية والسياسية، إذ قيّم المستجيبون الديمقراطية، بـ 5.3 درجات من أصل 10 درجات؛ وهو أقل من مؤشّر 2019/ 2020، حين بلغ 5.8 درجات، ذلك مع تزامن التقييم مع الموجة الثانية من الثورات العربية، وضمن تقييم لأحد مظاهر الديمقراطية، وهي حرية التعبير والقدرة على انتقاد الحكومات، فقد حازت 5.8 من أصل 10 درجات. وحصلت مصر وفلسطين والسعودية على أقلّ الدرجات، وفي نتائج المؤشّر دروس حول تجربة مصر والسودان، في ما يظهر من توجّهات الرأي العام في البلدين، من كون الديمقراطية مطلباً أساسياً.
ويتوافق الرأي العام على تأييد الديمقراطية، بينما يقيم واقعها ومستواها سلباً. وضمن ذلك، يأتي الموقف من الهيئات التمثيلية ومدى الثقة في الأحزاب، وما يترتب على ذلك من ضعف مستوى وأشكال المشاركة السياسية، وضعف ثقة المواطنين في الأحزاب والهيئات التمثيلية ومدى تحقيق مؤسّسات الدولة مفاهيم العدالة والمساواة. ويفسر ذلك مستوى استجابة العينة الضعيف حول المشاركة في الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية، إذ لا يشارك نحو 64% من المستجيبين في أي مؤسّسة، وإن كان بعضهم يعتبر أنّ هناك تيارات سياسية تمثّله (14%).
تزداد نسبة من يرون أنّ السياسات تسير في الاتجاه الخاطئ، في بلاد موجة الثورات الثانية، يتصدّر لبنان القائمة بنسبة 96%
ينظر أغلب مواطني الدول العربية إلى السياسات الحكومية بشكل سلبي، لا رضا عن الوضع الاقتصادي في الدول غير الخليجية، فيعتبر 49% من المستجيبين في مصر أنّ الأمور تسير في الطريق الصحيح في مقابل 45% في الطريق الخاطئ، بينما في تونس يرى 37% الأمور تسير في اتجاه صحيح مقابل 56% في المسار الخاطئ، وتزداد نسبة من يرون أنّ السياسات تسير في الاتجاه الخاطئ، في بلاد موجة الثورات الثانية، يتصدر لبنان القائمة بنسبة 96%، بينما السودان بنسبة 83% والعراق 81%، فيما يؤيد 45% من المستجيبين في الجزائر الاتجاه الصحيح، مقابل 36% أجابوا "لا أعرف" أو رفضوا الإجابة، مما يشير إلى ارتباك وعدم قدرة على التقييم، ويوحي بشيء من الخوف، ويشير إلى سلطوية أخذة في التمدّد.
عموماً، فسر المستجيبون المسار الخاطئ وردوه إلى عدّة أسباب، فاعتبر 40% الأسباب اقتصادية، و14% ذكروا أنّ السبب هو الوضع السياسي. أما على مستوى الدول فكان لافتاً أنّ أسباب تقييم المستجيبين للمسار الخاطئ مرتبطة بسوء الوضع الاقتصادي بنسب مرتفعة في الأردن 76% ومصر 74%، وفي تونس 45%، بينما سجلت بلاد الموجة الثانية من الثورات تفاوتا في تفسير المسار غير الصحيح، سجلت الأوضاع الاقتصادية في الجزائر 59%، وفي السودان 27%، والعراق 17%، ويرتفع مؤشر الأوضاع السياسية السيئة وغير المستقرة، في كلٍّ من الكويت بـ51%، والسعودية 29%، وإن كان ذلك مفهوما في السودان، فإنّه يشير إلى أزمة سياسة وصراع يستشعره المواطنون في كلا البلدين الخليجيين، وهما يختلفان عن أوضاع ليبيا والعراق والسودان ولبنان التي تعرض مواطنيها إلى نتائج ظروف عدم الاستقرار السياسي، وتردّي الظروف الأمنية، تجعلهم يعتبرون الوضع السياسي شيء وغير مستقر بنسب كبيرة تجاوز 70%، غير ضعف الثقة في الحكومات. من جانب آخر، دخول أغلب المواطنين في السعودية والكويت مرتفعة بالنسبة لبقية مواطني الأقاليم العربية غير الخليجية، ما يحيل إلى محاولة فهم التباينات الطبقية اليوم وعلاقتها بأزمة السياسة وشعور المواطنين بالحرمان النسبي والتمييز الذي يجعلهم يقيمون مسار سياسات حكوماتهم بالمسار الخاطئ، وكذلك، إظهار نحو 11% من الكويتيين، بأن أوضاعهم الاقتصادية سيئة، بينما 5% منهم رفضوا تقييم الوضع الاقتصادي.
المؤشر العربي مهم لجمهور القرّاء، وهم المستهدفون بشكل دائم في صراعات تريد تعميم مقولات مكررة عن اتجاهات الشعوب ومواقفها
وفي السياق، من المهم قراءة أولويات المواطنين ونتائج المؤشر حول أن المسائل الاقتصادية وتقدر بنحو 60%، وفي مقدمتها البطالة، وارتفاع الأسعار، وإن كانت تظهر بشكل لافت في كل من لبنان، وتونس، والعراق، والسودان، حيث قيم ما يزيد عن 75% الوضع الاقتصادي بأنه سلبي، مقابل نصف المصريين الذين يعتبرون الوضع الاقتصادي سيئا ، كما ارتفعت في دول الثورات العربية نسب أسر العوز خاصة السودان، والعراق، وتونس، ولبنان، ومصر.
وبشكل عام، وإن كان ما سبق قراءة في مؤشرات ترتبط بالحقوق السياسية والمدنية، وتقيم الشعوب لأوضاعها السياسية والاجتماعية، خصوصا دول الثورات العربية، فإن المؤشّر العربي للعام 2022، بشكل عام بالغ الأهمية، ذلك بحكم أن تراكم الجهد مستمر منذ بداية المؤشّر (2011) مما يوفر قدرة على التتبع والتحليل وقياس لتغير الاتجاهات، ثانيا لشمول المؤشّر مجالا جغرافيا يسع 14 بلدًا، وشموله عينة ممثلة تجاوزت 33 ألفا، فضلاً عن مصداقية إجراء المقابلات، بأسلوب المقابلة الوجاهية، (باستثناء 4500 عبر الهاتف مع سعوديين) غير أنّ نسخته الجديدة الدورة الثامنة، يشير إلى تطوير بين جوانبه، زيادة العينة (بدأ بعينة من 16 ألفاً تقريباً) واتساع المجال الجغرافي بإضافة ليبيا (كان استطلاع 2020 يشمل 13 دولة بـ28 ألف مستجيب) غير شموله قضايا جوهرية، منها تقييم نظم الحكم، والموقف من الثورات، والمخاطر الخارجية، والتطبيع والقضية الفلسطينية، في كل بلد، وغيرها من متغيرات تجعله مصدرا للمهتمين ومتّخذي القرار... وهو أيضاً هام لجمهور القرّاء، وهم المستهدفون بشكل دائم في صراعاتٍ تريد تعميم مقولاتٍ مكرّرة حول اتجاهات الشعوب ومواقفها.