"التيّار الوطني الشيعي"... ماذا بعد؟

17 ابريل 2024
+ الخط -

يقال إنّ واحدة من مهمّات السياسي إطلاق الشعارات المُبهَمَة أو التي تحتمل أكثر من تأويل، وربما الشعارات الخالية من المعنى أيضاً، فيما تكون مهمّة الكاتب إعادة الروح إلى تلك الشعارات، وتمحيصها، وكشف ما فيها من غموض وإبهام. وقد نصحنا المعلّم الصيني كونفوشيوس، في واحدة من مأثوراته، أن نعيد المعنى إلى الكلمات وهي في مرحلة التداول.

نحن أمام مهمّة من هذا النوع، عندما يطلق مقتدى الصدر تسمية التيّار الوطني الشيعي على التيار الذي يتزعّمه، وهي التسمية التي تحتمل أكثر من معنى، الهدف الأساسي منها الاستعداد لجولة أخرى تضع الصدر وتيّاره، من جديد، في خانة العملية السياسية الماثلة، التي هجرها قبل أكثر من عام، بعدما وجّه إليها سهام نقده، ودعا إلى تغييرها. وإذا كان الصدر معروفاً بتقلّباته المزاجية المفاجئة، وعدم انضباطه، وبسعيه إلى إعادة إنتاج نفسه كلّما أحاطت به ظروف خانقة، إلا أنّ ما هو مهمّ في آخر خطواته تلك إطلاقه صفتي "الوطنية" و"الشيعية"، في آن معاً، على تيّاره، وما تحمله التسمية من تناقض، وما تثيره من ظنون، وهذا ما دعا "وزير القائد"، محمد صالح العراقي، إلى التوضيح أنّ قائده يعني وضع "المذهب" أولاً، ثم "الإسلام" ثانياً، ثم "الوطن ومكوناته"، فأعاد بهذا التوضيح، من حيث لا يعلم، التيّارَ الصدري، إلى المربّع الأول، فكرّسه "تيّاراً مذهبياً" بامتياز، ونفى عنه ضمناً صفة "الوطنية" التي أراد أن يسبغها عليه، فجاءت تغريدته بعكس ما أراد، وكنّا نتمنّى لو أنّ الأمر جرى على غير ذلك، لو أنّ خلوة الصدر المديدة أعانته على فتح الطريق أمَامَه لتأسيس تيّارٍ وطنيٍ، عراقيٍ، خالصٍ، يتعالى فوق الهويّات الثانوية، ويرقي ليمثّل كلّ العراقيين على قاعدة الانتماء إلى الوطن، عندها يكون قد تراجع عن خطاياه المعروفة، وإحداها تشكيله مليشيا جيش المهدي بعد الاحتلال، المليشيا السوداء التي أوغلت في دماء العراقيين، وفتكت بالمئات من العلماء والضبّاط، وذوي الكفاءات والمهن الراقية، وأوْدت بأسَر كثيرة.

لا يزال مقتدى الصدر يحظى بمكانة متقدّمة لدى فقراء الشيعة، متدنّي الوعي، الذين يروْن فيه "خشبة الخلاص" من أوضاعهم المتردّية

وماذا بعد؟ ما الذي يريد مقتدى الصدر الوصول إليه؟. ... بمراجعة الحسابات السياسية القائمة، نجد أنّ الصدر، رغم كلّ ما عليه من مآخذ وملاحظات، لا يزال يحظى بمكانة متقدّمة لدى فقراء الشيعة، متدنّي الوعي، الذين يرون فيه "خشبة الخلاص" من أوضاعهم المتردّية، وأملاً في أن تمنحهم طاعتهم آل الصدر رضا الأمام المهدي عند ظهوره، وفق العقيدة "المهدوية"، وقد استطاع الصدر استثمار هذه الثقة في تجييش الأتباع والأنصار، والدفع بهم إلى الشارع متى أراد ذلك، وقد أصبح، في فترة، وربما إلى الآن، قادراً على صنع الملوك، يعكس ذلك خشية أطراف سياسية كثيرة منه، وبالأخص تيّار دولة القانون وزعيمه نوري المالكي، وكذلك زعماء المليشيات المتمركزة في الدولة العميقة، الذين أحرزوا مواقعَ متقدّمة في أثناء عزلة الصدر، تلك العزلة التي ارتضاها لنفسه على أمل أن تشكّل له نقطة قوة، لكنّها أضعفته إلى حدّ ما، وجعلته يفكر اليوم في ولوج الميدان السياسي من جديد، ومواجهة خصومه من القيادات الشيعية التقليدية الذين يتّهمهم بالفساد والتبعيّة للأجنبي، مراهناً على الحصول على غالبية نيابية في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في وقت قريب، والإمساك بقرار إدارة شؤون البلاد، وهذا ما أدركته إيران، وفكّرت فيه عندما حاولت الجمع بينه وبين خصومِه لوضعهم جميعاً في خدمة خططها الاستراتيجية في المنطقة، لكنّها فشلت في تحقيق ذلك، إذ أصرّ الصدر على إبقاء حبل الود بينه وبين خصومه مقطوعاً. ومع ذلك، ظلّت إيران تتواصل معه، ومع كلّ الأطراف، متمسّكة بمنطق الدولة الراعية لمصالحها، ولضمان بقاء نفوذها من دون أن تخسر أحداً من اللاعبين في الساحة، الذين تنظر إليهم مجرّد "بيادق" تستخدمهم متى شاءت وارتأت مصالحها. وأدرك هو، من ناحيته، أن لا بدّ من موالاة إيران على أمل أن تساعده في الاستحواذ على "الجائزة الكبرى" التي يريدها لنفسه دوناً عن غيره من القيادات الشيعية.

وهكذا، يظلّ الصدر زمناً أطولَ مالئاً الدنيا وشاغلاً الناس، وأحد شخوص المشهد السياسي العراقي البارزين، وربما تصحّ حساباته هذه المرة أكثر من السابق، فيحقّق الغالبية البرلمانية التي يسعى إليها، وينهي سطوة خصومه ومنافسيه. لكنّ ذلك، لو حدث فعلاً، فلن يعني شيئاً بالنسبة لغالبية العراقيين الذين يريدون التغيير الجذري والشامل، وتلك هي المفارقة.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"