التوافق الليبي بين الواقعية والطموح
التوافقية في اختيار (وتأسيس) الأجسام المختلفة التي ستدير الدولة الليبية عبر ملتقيات الحوار، الأممية منها، وحتى الداخلية، من أسباب الاختلاف وليس التوافق، ما سينتج عن تغليب هذا المبدأ، غير الواقعي، على عدم قدرة أعضاء فريق الحوار على إنشاء جسمٍ يُمكِنُ من خلاله تجاوز المرحلة. وهذا ما كان واقعاً في ملتقى الحوار المنعقد في جنيف، 5 فبراير/ شباط الحالي، والذي نجح في التغلب عليها، ما مكّن أعضاء فريق الحوار من انتخاب مجلس رئاسي ورئيس حكومة تنفيذية جديدة. الأمر الذي يقود إلى الحديث عن التوافق الأوسع والأشمل، والمتمثل في الشعب، حول هذه الأجسام الجديدة من عدمه، حيث يحتاج التوافق السياسي بيئةً وحاضنةً مجتمعيةً له قدر الإمكان، والتي بدورها تجعل فرص نجاح عمل هذه الأجسام في تحقيق بعض الاستقرار مرضيةً إلى حد ما. كما أنه لا بد للتوافق النسبي من إنشاء علاقات سياسية مختلفة، تراعي المرحلة وخصوصيتها، والتركيز على أكبر قدر ممكن من الإجماع المجتمعي والسياسي حولها، تتمازج معه مكونات المجتمع المختلفة، باعتبار أن هناك نسيجاً اجتماعياً تغذيه المناطقية الذي صار على إثرها فاعلاً ومؤثراً في مراحل عمر الثورة الليبية ذات السنوات العشر.
الشراكة السياسية تعتبر عنصرا أساسيا في ترسيخ التوافق أو الانقلاب عليه داخلياً، وهذا أول امتحانات العمل والتكوين للحكومة الجديدة
كما أن الحديث عن التوافق يقودنا إلى التنبيه إلى تكلفة هذه التوافقات في قابل الأيام والشهور، ليس ابتداء بتكوين الحكومة والتقاسمات والمحاصصة التي سوف تتجاذبها، وليس انتهاء بمنح الثقة للحكومة من البرلمان المتشظي على نفسه، أو الأيلولة في ذلك إلى ملتقى الحوار إن فشل البرلمان في منحها. ومن جهة أخرى، التحدّي المستقبلي الآخر لهما (المجلس الرئاسي والحكومة) هو القدرة على المحافظة أو التماسك ومقاومة أي انشقاق يخلّ بهذا التوافق النسبي، والذي إن حدث سيكون له تأثير سلبي كبير على المشهد السياسي الليبي، ومن ثَمَّ على البلاد ككل. وبالتالي، أي بوادر اختلاف على هذا التوافق في الفترة المقبلة والقليلة (المحدودة بشهور) في البلاد، قبل الوصول إلى موعد الانتخابات في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2021، كما هو مقرّر لها، يجعل من إمكانية العودة إلى المربع الأول للأزمة واردة وبكل قوة؛ بل ربما يكون بحدّة أكثر.
تجذير هذا التوافق، وتحويله إلى حالة دائمة، ولو مرحلياً، من الصعوبة بمكان. ولكنّ له أثرا إيجابيا على كل الأبعاد والأصعدة، الداخلية منها، والخارجية، الإقليمية والدولية، باعتبار أن هذا التوافق النسبي كان له أثر واضح في القبول به على الصعيد الإقليمي للدولة الليبية، وهذا مهم جدا، باعتبار أن لدول الجوار تأثيرا مباشرا أو غير مباشر في إنجاح هذا التوافق أو إسقاطه، كما أن الشراكة السياسية تعتبر عنصرا أساسيا في ترسيخ التوافق أو الانقلاب عليه داخلياً، وهذا أول امتحانات العمل والتكوين للحكومة الجديدة.
كما أن منهجية الشراكة لا تقف عند اقتسام السلطة والوزارات أو الهيئات الرسمية للبلاد، بقدر ما هي منهجية لمحاولة إيجاد هذا التوافق النسبي فعليا على الأرض، والجمع بين الأطياف السياسية المختلفة ليظهر التأثير الفعلي والحقيقي على التوافق وآلياته في العمل، وإلا كان هذا التوافق ما هو إلا نتاج مماحكات سياسية لن يكون لها تأثير على الواقع أولاً، وعلى حل الأزمة في البلاد ثانياً.
"خيار التوافقية" في حد ذاته جيد، إذا أريد به البناء، والانتقال من مرحلة التأزيم إلى مرحلة التهدئة
في المقابل، ثمّة مصالح ومنافع تسعى المكونات السياسية المختلفة إلى تحقيقها، عبر هذا التوافق، سواء من خلال إعادة التموقع في مفاصل الدولة، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، أو من خلال اختيار مبدأ المعارضة الهدامة، غير أن هذا الخيار الأخير لن يكون إلّا بنسبة محدودة، ليس لها تأثير واقعي وفعّال على كل الأحوال، بالنظر إلى المجتمع الدولي، والترحيب الذي صاحب اختيار المجلس الرئاسي والحكومة الجديدين. وبالتالي، التركيز على التوافق بناء على برامج سياسية، مقرونة بنهج اقتصادي، وتأثير اجتماعي، تجعل من الشراكة في بناء سلطة فاعلة، ومبنية على تقاسم للأدوار بأمر واقعي، يمكن من خلاله الوصول إلى مرحلة الاستقرار، وإنهاء المراحل الانتقالية المتتالية، بشرط تحقيق العدل، وعدم التسامح مع من انتهك الحرمات والحقوق، وتعدّى على المجتمع.
عود على بدء ... "خيار التوافقية" في حد ذاته جيد، إذا أريد به البناء، والانتقال من مرحلة التأزيم إلى مرحلة التهدئة، وكان هذا التوافق حقيقياً وليس مصطنعاً، أما إذا كان أداة برغماتية للمكونات السياسية لا أكثر، فذلك تعقيد للأزمة وليس حلها، وهذا ما سوف تُظهره الأيام المقبلة. وإن غداً لناظره لقريب.