التنشئة المدرسيّة الإسرائيليّة ... الكراهية والتمييز العنصري والقتل
حالة فريدة في العالم، لا مثيل لها، يجسّدها اعتماد الكيان المحتلّ في فلسطين "مناهج تعليميّة" تحضّ تلاميذ المدارس فيه، منذ الصفوف الابتدائية حتى الثانوية، ولاحقاً في المرحلة الجامعية، على كره الفلسطينيّ صاحب الأرض والحقّ، وعلى جواز قتله وعلى كره العرب وقتلهم لكونهم "أغياراً" ويشكّلون خطراً وجودياً على كيانهم المخترع. لا شعب ولا دين في العالم ينشّئان الأطفال والفتية والشبّان على الكراهية والقتل، إلّا في هذا الكيان المتوحّش.
مرجع أساسيّ في هذه المسألة المرعبة والمنافية للإنسانيّة وقيمها التربويّة بالمطلق، ليس عربيّاً أو أجنبيّاً، بل إسرائيلي، بالوقائع والمعاينات الميدانيّة والممارسات العمليّة، يحمل توقيع نوريت بيلد – إلحنان Nurit Peled – Elhanan العالمة اللغويّة الإسرائيلية والمحاضرة في اللغة والتعليم في الجامعة العبرية في القدس والمترجمة والناشطة في مجال حقوق الإنسان، وقد اشتُهرت بأبحاثها المتعلّقة بكيفية تصوير الفلسطينيين في الكتب المدرسية الإسرائيلية، وبانتقادها الشديد الصورة التي يوصَف بها الإنسان العربي في تلك الكتب، نعتتها بالصورة العنصرية. ولإنجاز بحثها المثير وإصداره في كتاب يحمل عنوان "فلسطين في الكتب المدرسية في إسرائيل ... الأيديولوجيا والدعاية في التربية والتعليم" (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"، رام الله، ترجمة ياسين السيد، تقديم أنطوان شلحت، 2012)، درست كتب التعليم الإسرائيلية، لتخلُص إلى أنّ جهاز التعليم الإسرائيليّ يُعدُّ التلاميذ للأعمال الإجرامية في الجيش لاحقاً، على النحو الذي كان معتمداً في النظام التعليميّ النازيّ.
لعلّ من المفيد، قبل دخول صلب الموضوع، ذكر معلومات مختصرة عن نوريت بيلد – إلحنان، فهي ابنة اللواء في الجيش الإسرائيلي ماتي بيلد من مؤسِّسي "كتلة السلام". وقُتلت ابنتها، سمدار، في تفجير في القدس المحتلة عام 1997، وقبل بضعة أيام من سفرها إلى جنوب أفريقيا، توجهت إلى أصدقائها على فيسبوك بالقول: "أسافر إلى كيبتاون لحضور جلسة "هيئة راسل" عن فلسطين، والمناقشة هذه المرّة هي عن الأبارتهايد في إسرائيل، فلعلّكم تبعثون إليّ بمادة أستطيع نشرها هناك". تنتمي نوريت، إذن، إلى تيّار إسرائيلي مناهض للتمييز العنصري داخل الكيان، ومدافع، بحدود معيّنة، عن حقوق الشعب الفلسطيني، ورافض الأبارتهايد الذي يمارس بوحشية ضدّه.
ماذا تقول الباحثة الأكاديمية الإسرائيلية عن هذا النظام التعليميّ الغريب والأوحد راهناً في العالم؟ ... عقب اطّلاعها الدقيق على نصوص لفظيّة وبصريّة في 20 من كتب التاريخ والجغرافيا والتربية المدنيّة المتداولة في المدارس الإسرائيلية، يتبيّن للباحثة أنّ هذه الكتب المدرسيّة توظّف وسائل ووسائط متعدّدة لـ"شرعنة" الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي وعمليات الإقصاء المستمرّة التي تستهدف المواطنين الفلسطينيين وآخرين ممن يخضعون لحكم "إسرائيل". ويُصوَّر الفلسطينيون في هذه الكتب بأنهم معضلة ينبغي إيجاد حل لها، أو بأنّهم "عدوّ من الداخل". وبالتالي، يُعنى تمثيل الفلسطينيين في الكتب المدرسيّة الإسرائيلية بشرعنة الاستيطان الذي ينهض على الحاجة النهائية إلى إبعادهم وإقصائهم واطّراحهم من الناحيتين، الرمزية والمادية، وليس أفضل من أجل ذلك من استعارة "البستنة" (مصطلح وضعه زيغمونت باومان، ويعني استئصال الأعشاب الضارّة، أي أصحاب الأرض، ورميها خارج البلاد) في إطار المخطط الصهيوني العام الذي يرمي إلى إيجاد مجتمع مصطنع.
على خلاف ما يرد في الكتب المدرسية، لم يحكم اليهود قطّ في أرض كنعان، ولم تكن القدس يوماً عاصمة يهودية
انطلاقاً من هذا المشروع الإحلاليّ المعلن، أُدخلت "شرعنته" ضمن الكتب المدرسية، في أسلوب ممنهج. وهنا تستشهد الباحثة بزميلها المتنوّر إيلان بابيه، إذ يشير إلى "تشديد منظومة التعليم الصهيونية على حالة التفرّد المزعومة التي تَسِم الأمة اليهودية في بحثها الدؤوب عن السيادة في الوطن الذي حباهم إيّاه الكتاب المقدس (...)". وتشرعن الكتب المدرسية الأعمال المتواصلة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم على أساس الحاجة إلى تهويد البلاد عن بكرة أبيها. تحتاج منظومة التعليم في "إسرائيل" إلى وسائل بالغة التعقيد لكي تهيّئ جنودها المستقبليين. وتُعنى الكتب المتداولة في المدارس الإسرائيلية بغرس الذاكرة الجمعيّة الصهيونيّة في عقول التلاميذ، وتشكيل هوية يهودية قومية تقليدية.
ما هي الأفكار الأساسيّة التي تنطوي عليها الكتب التعليمية في المدارس الإسرائيلية؟. أولاً، الافتراضات الوجودية: فالمجموعة الأولى هي من الموجود في الخطاب الاجتماعي والسياسيّ والتعليميّ، ويتمحور حول "الحقوق التاريخية" (!) اليهودية على كامل أرض فلسطين التي باتوا يسمونها "أرض إسرائيل" (!). وترتكز هذه الحقوق التاريخية في أساسها على التوراة التي تشكّل "وثيقة تاريخية" (!) بالنسبة إلى الصهيونية العلمانية. هنا يقول بابيه: "ربط الصهاينة تطلعاتهم الحديثة بتقليد مجتمعيّ بائد"، علماً أنّ التوراة لا تأتي على ذكر اليهود، بل تتحدّث عن أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، الذين اندمج معظمهم في البيئة المسيحية أو الإسلامية على مرّ العصور. في حين، ولعبث الوجود والأقدار والمشاريع الجنونية، لا تتسبّب هذه الحقيقة التوراتية بأيّ إرباكٍ لدعاة الأيديولوجيا الصهيونية المخترعة، ولا تثير حيرتهم!
تقدّم الباحثة الإسرائيلية مثلاً كتاب "بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط للصفّ الخامس" الذي يضلّل التلاميذ في الكيان، بزعمه الباطل إنّ "القدس كانت عاصمة الشعب اليهودي على الدوام (باستثناء ألفي سنة لم نكن موجودين خلالها هنا)" (!)، وفي هذا الزعم العبثيّ ما يُبكي ويُضحك في آن، فالحقيقة التاريخية المثبتة من كبار المؤرخين تفيد بأنّ الوجود اليهوديّ في الأرض الكنعانيّة، وفي زمن الحكم الروماني وما تلاه، لم يتعدَّ وجود قبائل يهودية بين أقوام وقبائل متعدّدة، ولم يحكم اليهود قطّ في أرض كنعان، ولم تكن القدس يوماً عاصمة يهودية لم تقم أصلاً ... أمّا المضحك فهو استسهال غياب اليهود عن هذه الأرض ألفي سنة، ثم عودتهم إلى استرداد "مُلك ضائع" منذ فترة "بسيطة"! وفق "تقليد مجتمعيّ بائد" بحسب تعبير بابيه. وبالتالي، بحسب التلقين الصهيونيّ، تحظى الدولة بحق "إلهي" في الوجود، كما أنّ العنف والسيادة يرتكزان على أساس "إلهي".
الفلسطينيون المعتبرون "أغياراً" (غوييم) يجب، بالنسبة إلى الإسرائيليّ، إبعادهم أو استئصالهم
ومن جملة الافتراضات الوجودية الأخرى أنّ الفلسطينيين، أو "عرب إسرائيل" في التسمية المعتمدة في الكتب المدرسية الإسرائيلية، "هَجَروا" قراهم "إمّا بدافع الخوف الذي لم يكن له ما يوجبه" (يا لوداعة الحَمَل الصهيوني!) "أو بناءً على أوامر من زعمائهم" (صحيح، فزعماء الشعب الفلسطيني أمروه بأن يرتكب بنفسه مجازر دير ياسين وكفرقاسم والطنطورة وقبية وخان يونس وقليقلة وسواها الكثير، وبأن ينفّذ الترانسفير المأساويّ المذلّ!). وفي كلّ موضع تأتي فيه الكتب الإسرائيلية على ذكر قرية فلسطينيّة تمّ تطهيرها تترافق مع تلك القرية صفة "مهجورة" (لا مهجّرة). وفي صورة يتضمنّها الكتاب المدرسيّ، مثالا بين صور وخرائط عديدة، وُضع التعليق الآتي: "عملت الدولة، خلال السنوات الأولى من قيامها، على استيعاب مئات الألوف من ̕العوليم̔ (القادمين الجدد من اليهود) الذين أتوا إليها وهم لا يلوون على شيء. وقد أُسكن الكثير منهم في القرى المهجورة (لا المهجّرة، يا للفجور والوقاحة!)، إحداها قرية "ياهود التي التُقِطت فيها هذه الصورة عام 1948". والصورة هذه في الزاوية اليمنى أسفل الصفحة أُعطيت عنوان "المشكلة الفلسطينية"، وهي خالية من الناس كما لو كانت تُصوّر كارثة بيئيّة (لا تهجيريّة!). ويرد تعليق آخر على الصورة: "لقد نضجت ̕المشكلة الفلسطينية̔، وبلغت مبلغها من الفقر والجمود والإحباط، قَدَر اللاجئين في مخيّماتهم البائسة" (صحيح أيضاً، فاللاجئون الفلسطينيون اختاروا قَدَرَهم هذا بالانتقال من مدنهم وقراهم وأراضيهم الزراعية للإقامة في مخيّمات البؤس!).
ثانياً، الافتراضات المقترحة: الكتب المدرسيّة المتداولة في الكيان المحتلّ والإحلاليّ والعنصريّ بأنّ الفلسطينيين الباقين في أرضهم التاريخية يمثّلون مشكلة ديموغرافية قد تتحوّل إلى تهديد ديموغرافيّ (وهي كذلك منذ زمن وتزداد) أو "كابوس ديموغرافي" ما لم يتمّ التحكّم فيها. وتشكّل هذه الافتراضات جانباً من الرواية القوميّة الإسرائيليّة، أو ممّا يعرّفه الباحثون بـ"الأساطير المؤسِّسة لإسرائيل" (بابيه، بيتربرغ، شترنهال).
ثالثاً، افتراضات القيمة: ما الذي يُعدّ جيّداً ومرغوباً، دولة يهودية، غالبيّة يهودية، أم سيطرة إسرائيلية؟ السؤال المطروح يكمن في أنّ كيف لإسرائيل هذه أن تحافظ على غالبيّة يهودية، في حين يشكل السكان الفلسطينيون الخاضعون لهيمنتها نحو نصف العدد الكلّي للسكان فيها؟ تنطبق على هذا السياق استعارة "البستنة" أكثر من سواه، فبحسب باومان: "جميع الرؤى التي تنظر إلى المجتمع بوصفه بستاناً تُعرِّف الأجزاء المؤلفة للموئل الاجتماعي بكونها أعشاباً بشريّة ضارّة، وينبغي عزل هذه الأعشاب واحتواؤها ومنع انتشارها وإزالتها وإبعادها إلى خارج حدود المجتمع. ولو ثبت أنّ مجمل هذه الوسائل غير كافٍ لوجب قتلها".
تبرّر الكتب المدرسيّة الإسرائيلية التمييز الذي يستهدف الفلسطينيين، والظروف اللاإنسانية التي يحيون فيها
الفلسطينيون المعتبرون "أغياراً" (غوييم) يجب، بالنسبة إلى الإسرائيليّ، إبعادهم أو استئصالهم. ويَرِد إقصاؤهم على نحو بليغ في سلسلة الكتب المدرسية الإسرائيلية التي تحمل عنوان "العيش معاً في إسرائيل: كتاب دراسيّ في دراسات الوطن والمجتمع والمدنيّات"، وهي سلسلة مخصّصة للصف الثاني حتى الصف الرابع نَشرَها مركز التقنيات التربوية عام 2006، ويتمّ فيها إقصاء أطفال الفلسطينيين والإثيوبيين (اليهود الفالاشا) والدروز البدو الذين يعيشون في الكيان بشكل تام، من النصوص الأساسية التي تتناول "الحياة الإسرائيلية" وصورها. ويُحصر حضور هؤلاء الأطفال في "نوافذ" (Windows) مؤطّرة بإحكام وذات ألوان مختلفة، كما لو أنّهم عيّنة منزوعة من السياق وتحمل وَسْماً خاصاً بين "الأقليات" أو "الإثنيّات" التي تخضع للتدقيق، ولا صلة تربطهم بباقي السكان، فلا نصيب لهم في الحياة والعالم اللذين تستعرضهما سلسلة الكتب هذه.
ويُعرضُ على غلاف كلّ كتيّب من السلسلة رسم ملوّن لأشخاص من مختلف الأعمار يمثّلون سكّان "إسرائيل"، ولا أحد بين هؤلاء عربيّ أو أسود أو حتى ذو بشرة حنطيّة كاليهود الشرقيين الذين يشكّلون غالبية سكان الكيان الصهيوني. ويقدّم كلّ جزء من السلسلة "عصابة" من الأطفال الأدلّاء الذين يصطحبون القارئ في رحلة ضمن "ربوع إسرائيل" للقاء الناس والتعرّف إلى الأماكن. سائر الأطفال المنضوين في هذه "العصابة" وُلدوا في الأرض المحتلّة، باستثناء طفلة شقراء واحدة تدعى ساشا (يشير هذا الاسم إلى النجاح الذي حققه الكيان في استيعاب اليهود الروس). وبحسب ما يفترض باومان "تساعد هذه الكتب في تقسيم المجتمع بعامّةٍ قسمين، قسم غير موسوم وقسم موسوم. فالموسومون يشكلون فئة مختلفة، من حيث إنّ ما يسري عليها لا يسري على جميع الفئات الأخرى. من خلال هذا التعريف تغدو هذه الجماعة مستهدفة بمعاملة خاصة، فما يُعدّ لائقاً بالنسبة إلى أناس "عاديين" ليس هكذا بالضرورة بالنسبة إليها".
تبرّر الكتب المدرسيّة الإسرائيلية التمييز الذي يستهدف الفلسطينيين، والظروف اللاإنسانية التي يحيون فيها، باستراتيجية "تثبيت الوجود" الصهيونية، بما تعنيه من تعليم الناشئة أنّ "إسرائيل" بكونها صاحبة السيادة (كمحتلّ بالطبع) فإنّها تملك صلاحية التصرّف خارج إطار القانون (بما في ذلك فعل القتل في مختلف الأوضاع والظروف، وقتل الأطفال!)، وتؤكّد الكتب المدرسية للتلميذ الإسرائيلي الفتيّ والشاب على أن لا تناقض بين أن تكون "ديمقراطياً"، وأن تعتمد توجّهاً يقوم على الإقصاء والتمييز والكراهية والقتل، فالعقيدة العنصرية والدوغما الدينية الخرافية تبيحان كلّ المحظورات.