التعذيب عبر البطاقة الذكية
لم يستغرق إقرار قانون تجريم التعذيب في سورية، بين مناقشته في مجلس الشعب (البرلمان) وتوقيعه من رأس النظام بشار الأسد، سوى أسبوع. فقد ظهر الخبر من دون مقدمات، أو أسباب معلن عنها، عبر وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، ليُحدث موجةً من التهكّم والسخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بُنيت على المفارقة بين واقع البلاد التي تكرّس فيها الخوف من الشرطة ورجال الأمن، والدخول إلى مقرّاتهم، من خلال حتمية تعرّض المرء فيها للتعذيب، وبين أن يكتشف المشرّعون أن الشعب الذي يمثلونه يحتاج إلى قانون يحفظ من خلاله كرامته، ويمنع عنه جوْر من منحهم النظام الحرية في استباحة كل سورية، بطولها وعرضها، وتعذيب ليس السوريين فقط، بل السائحين أيضاً. ويكفي المرء تذكّر واحدة من الطرائف المؤلمة، حين يدعو أردني على أردني آخر فيقول له: "الله ياخدك على سجن المزّة"! ليترسخ في العقل أن هذا السجن الرابض على جبلٍ يطل على العاصمة دمشق، كناية عن الفزع من التعذيب والتنكيل، قد صار جزءاً من الذاكرة العربية السوداء! وبالتأكيد، لن ينسى السوريون، وهم يراجعون تاريخ مآسيهم، سجوناً أخرى، كمعتقل تدمر الرهيب، و"كركون الشيخ حسن"، ومعتقل صيدنايا العسكري، وسجن عدرا المدني، وغيرها من أقبية فروع المخابرات متعدّدة الأسماء والمهام، التي كانت وما زالت مفردات متكرّرة في القصة السورية الكارثية.
سرعة النظام في جعل التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون، بالقياس مع تاريخه في اعتماد هذا الأسلوب طريقةً في إدارة البلاد والعباد، توحي بأن المسألة ملحّة، خصوصاً وأنه يحمي موظفيه الأمنيين من المحاسبة بقوانين سابقة، وكأن أمراً إلزامياً قد صدر للتنفيذ! وعليه، فإن السؤال الذي يُلح، ويبحث السوريون عن جواب له، يتصل بضرورة معرفة من أصدر هذا الأمر؟ أيُعقل أن الأسد الذي قاد المجزرة الدموية طوال العقد السابق ضد شعبه قد صحا من نومه فجأة يشكو من وخزة "الضمير"، حيال بعض ما يقاسيه مئات آلاف من السوريين في سجونه، فطلب من أزلامه أن يشرّعوا القانون على وجه السرعة ليوقعه؟ أم أن الأمر يعود إلى محاولات زوجته الدؤوبة المستمرة منذ مرحلة ما قبل الثورة، لتجميل صورة النظام، وجعله عصرياً، عبر إلغاء وجوه عسكرة المجتمع من خلال تغيير ألبسة طلاب المدارس الخاكية، والتركيز خلال السنوات الفائتة على إظهار حضورها وزوجها وأولادهما في بيوت جرحى الجيش، فضلاً عن استقبالها أرامل رجاله، وتمدّد سيطرة مؤسستها "السورية للتنمية" حاملة لواء الحداثة، إلى عمل الوزارات، كالثقافة والتربية والشؤون الاجتماعية والعمل، واحتكارها المساعدات القادمة من الخارج، وتحكّمها بغذاء السوريين ووقودهم من خلال تمرير كل ما يحتاجونه عبر "البطاقة الذكية" التي صارت تفصيلاً لازماً، لا يمكن للمواطن أن يعيش من دونه.
لن ينسى السوريون، وهم يراجعون تاريخ مآسيهم، سجوناً كمعتقل تدمر الرهيب، و"كركون الشيخ حسن"، ومعتقل صيدنايا العسكري وغيرها
طبعاً، ليس مهماً لأسماء الأسد حجم التعذيب الذي تعرّض ويتعرّض له مواطنوها من مؤسسات زوجها الأمنية، لكن إقرار مثل هذا القانون قد يمنحها بعض القبول من مؤسّسات دولية تطمح إلى أن تبني معها علاقة ما، تستعيد عبرها بعضاً من مكاسب فقدتها، بسبب حرب زوجها على الثائرين ضده. ومن جهة ثانية، قد يحسّن قليلاً من صورتها في الداخل، خصوصاً وأنها قد طُرحت في وقت ما بديلاً "سنّياً" عن زوجها "العلوي"! لكن ردود المؤسسات المختصة لا تشي بأن إصدار هذا القانون يمكن أن يُحدث فرقاً، فمنظمة العفو الدولية رأت فيه "ستاراً لعقود من الانتهاكات"، وسخرت "هيومن رايتس ووتش" من القصة، ورأت في القانون "أمراً يصعب أخذُه على محمل الجد".
وإذا ما استبعدنا أن يكون أحدٌ من عائلة الأسد قد أصدر الأمر لإقرار قانون تجريم التعذيب، فإن السؤال سيأخذ شكلاً مختلفاً، ففي البلاد المحكومة على الأرض من إيران وروسيا، لا يمكن للمستبدّ أن ينهج مثل هذا الدرب، من دون أن يتلقى توجيهاً من أحد هذين المحتلين. رغم ذلك، يبدو هذا الاحتمال مستبعداً، فكلاهما غارق في مشكلاته، وليس لديه أي فائدة من أن يصنع الأسد قانوناً مثل هذا، في هذا الوقت بالذات. ويبقى فعلياً احتمال أخير، هو البحث عمّن نصح بضرورة هذه الخطوة. وهنا، لن نجد سوى الذين يسوّقون النظام السوري ليعود إلى "الحضن العربي"، ومن بعده إلى علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي.
لن يتوقف إرهاب الأجهزة للسوريين في غرف التحقيق
طبعاً، سنتذكّر أن الأسد حل قبل فترة وجيزة ضيفاً على حكّام الإمارات في زيارته العربية الأولى منذ عام 2011. وبالتأكيد فإن قسماً من نصائح الجماعة للرجل، كان يتعلق بالتسويق وتحسين الصورة، فبدلاً من أن يبقى النظام خاسراً في معركته مع المجتمع الدولي، لجهة سجله الدموي في مجال حقوق الإنسان، لماذا لا يمسك زمام الأمور، ويتقدّم خطوة، ويمنع التعذيب!؟ يشبه هذا الحل ما فعله النظام، وعبر الوساطة الروسية بعد جريمة قصف غوطتي دمشق بالأسلحة الكيميائية في أغسطس/ آب 2013، حينما طُلب منه، ولحفظ ماء وجه أوباما وخطوطه الحمراء، تسليم مخزونه من هذا السلاح، مقابل نجاته من العقاب، الأمر الذي ادّعى أنه سينفذه، ولم يفعل، لا بل إنه كرّر فعلته عدّة مرّات لاحقاً، ولم يحاسبه على ذلك أحد!
وتبعاً لخصيصة من خصائصه، لن يتوقف إرهاب الأجهزة للسوريين في غرف التحقيق، ولن يرتدع القضاة عن الحكم على المتهمين، رغم معرفتهم أن التعذيب هو الأسلوب المعتمد في الحصول على الاعترافات. وسيحدُث هذا كله، تحت مسوّغات وقرارات استثنائية، فلو كان للقوانين، وخصوصاً المستندة للشرائع الدولية، من سبيل للتنفيذ في سورية، هل كانت وصلت إلى هذا المصير؟