البيع الحرام... ودور الشعوب في المواجهة
الدول التي تنتهز الفرصة، وتستغل حالة الوهن التي تمرّ بها أي دولة للاستحواذ على أصولها مقابل الديون، لا تقع أبداً في تصنيف الدول الشقيقة أو حتى الصديقة. كان من المتمنّى لو امتنعت هذه الدول، منذ البداية، عن الإقراض، ما دامت ترى أنها تُقرض دولة لن تستطيع السداد. أما وأن نيّتها سلفا هي الاستغلال وانتهاز مثل هذه الفرص، فهي كالمرابي تماماً، يظلّ يستغلك حتى تبيع ملابسك ومنزلك، ويتركك عارياً تتسوّل في الشوارع، وهو ما نحن بصدده.
أيضاً، يجب أن نُقرّ مبدأً مهماً، أن الدولة، أي دولة، حينما لا تستشير شعبها في عمليات الاقتراض، ولا في مجالات الإنفاق وأولوياته، لا يمكنها أن تحمّل مسؤولية هذه الديون للشعب. أما وقد أقرّها البرلمان، فلأنه لا يملك سوى الإقرار، في مثل هذه الظروف السلطوية، من جهة، ولأنه ليس برلماناً بالمعنى المتعارف عليه دولياً، من حيث نزاهة الانتخابات لاختيار الأكفأ والأفضل من جهة أخرى، وقد حكمت المحكمة العليا في أميركا بشرعية عدم سداد كوستاريكا ديونها لأسبابٍ مشابهة.
بالتالي، نحن أمام ديونٍ مطعون في شرعيتها وقانونيتها، كان على الأحزاب السياسية في هذه الدول المدينة أن تطعن فيها أمام محاكم دولية لإسقاطها، أو إسقاط فوائدها على أقلّ تقدير، كما كان على منظمات المجتمع المدني أن تناشد دول العالم الدائن ألا تستجيب لطلبات الاستحواذ والبيع، باعتبار أن الشعب لم يُستشر في هذه أيضاً. وبالتالي، قد يصبح البيع باطلاً، وهو ما سوف تقضي به المحاكم المحلية والدولية معاً ذات يوم، استناداً إلى عمليات الضغوط والإذعان، وأيضاً فقدان شرعية البائع في أحيان كثيرة.
نحن أمام ديونٍ مطعون في شرعيتها وقانونيتها
الكرة في هذه الحالة في ملعب الأحزاب السياسية والمنظمات الأهلية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خصوصا حينما لا يستجيب النظام الحاكم لأية نداءات، ويسير في عمليات الاقتراض والبيع معاً بوتيرةٍ متسارعة، من دون الأخذ في الاعتبار مصالح الأجيال الحالية ولا القادمة، وهو ما يحتّم التفكير خارج الصندوق، بعد أن تحمّل المواطن وحده عبء أخطاء الأنظمة وتعنّتها، بدءاً من رفع الدعم، مروراً برفع الأسعار، وحتى فرض مزيدٍ من الضرائب والرسوم بلا أي رادع، وهي الوسائل التي تلجأ إليها أنظمة حكم الفرد في مثل هذه الظروف.
جاءت البدايات، في مصر، على سبيل المثال، من أمانات العمال في الأحزاب، من خلال بيان رفضت فيه بيع الأصول المصرية أو مبادلتها بالديون، وطالبت بإدراج ملفّ البيع بالحوار الوطني.. كما دعت إلى تشكيل لجنة "الدفاع عن الأصول المصرية"، ولا أعتقد أن النظام الحاكم في مصر أو في أي دولة مثقلة بالديون يجب أن يمتعض إذا دخلت الأحزاب، أو أي من المؤسسات، على خط الحد من أضرار الأزمة، أو قل الكارثة، ما دامت المصلحة تقتضي ذلك.
الأهم أن هذا النداء يجب أن توجهه الشعوب طوال الوقت أيضاً إلى الدول الدائنة باستخدام أقصى درجات الرأفة والرحمة، وألا تكون الأصول السيادية من موانئ ومطارات ومصانع ومنشآت هي الهدف، حتى وإن كان النظام لا يمانع في ذلك أو يسعى إليه للأسف، ذلك أن الرأي العام، في مجمله، سوف يقاوم هذا التملك عاجلاً أو آجلاً، وتصبح مخاطر هذا النوع من الاستثمار في المستقبل القريب هي الأسوأ على الإطلاق.
مصر تمر الآن بأخطر أزمة على الإطلاق، منذ هزيمة 1967 العسكرية
يجب أن نعترف، حكومة وشعباً، بأن مصر تمر الآن بأخطر أزمة على الإطلاق، منذ هزيمة 1967 العسكرية، وهي إن كانت تعي في ذلك العام أن الخروج من الأزمة يأتي باستجماع القوى لتحرير الأرض وهزيمة العدو، فإن الأزمة الحالية لا أحد يستطيع التكهن بطرق الخروج منها، رغم وضوح عواقبها، وذلك نتيجة انعدام الشفافية، ونتيجة تجميع أطراف الأزمة في يد واحدة، بالتزامن مع محاولات تحميل الشعب مسؤولية ما جرى ويجري، وأصبح يعاني بالفعل من سداد فواتير لم يكن أبداً طرفاً فيها.
من المهم أن يعي صنّاع القرار في الدول المدينة أن حالة القلق والتوتر والخوف من المستقبل التي تعيشها الشعوب سوف تؤثر بشكل سلبي على كل مناحي الحياة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على المدى القريب، في غياب آفاق للحل، سواء من الداخل أو الخارج، بعد أن ظهرت الحكومات بشكل صاغر في الخارج، وحالة ارتباكٍ في الداخل، ساهم في تفاقمها فشل الإعلام الرسمي بشكل خاص، وتأثير الإعلام المناوئ بشكل واضح، وهو الأمر الذي كان يتطلّب مواجهةً شاملةً بالتغيير في الأولى، والاحتواء في الثانية، كبداية أصبحت حتميةً، حتى يمكن الخروج بأقل قدر من الخسائر، وسط توقعاتٍ متشائمةٍ على كل الأصعدة.
لتكن هناك وقفة حاسمة أمام جموع المشترين الدائنين، لنرفع شعار "لا للبيع" و"لا للتفريط"
ربما ترى الأحزاب في هذه الدولة أو تلك أنها أصبحت كرتونية بما يكفي لعدم السماح بتدخلها في هذا الشأن أو ذاك، أو لعدم قدرتها على القيام بمبادراتٍ من أي نوع، إلا أن هذه القضية تحديداً قد تمثل فرصةً لاستعادة فاعلية هذه الأحزاب داخليا وخارجياً، وتحصل على الاعتراف الشعبي الذي فقدته وافتقرت إليه طوال السنوات الماضية، ذلك أننا أمام قضيةٍ مصيرية، تمثل حياة أو موتا لأوطان على شفا جرفٍ هار، يمكن أن تهوي بالجميع، حكّاماً ومحكومين.
هو نداءٌ إلى كل القوى الحُرّة، وبشكل خاص التي لم تتأثر بعملية الإخصاء الشامل الحاصلة حاليا، لتخرج من شرنقة الخوف والتردّد، وأحيانا النفاق، وتُغلّب المصلحة الوطنية أياً كانت العواقب، لتكن هناك وقفة حاسمة أمام جموع المشترين الدائنين، لنرفع شعار "لا للبيع" و"لا للتفريط"، ذلك أن الصمت كان سبباً في كل ما حاق بالمجتمعات المدينة، وهو أمرٌ لن يغفره التاريخ، أياً كان حجم البطش، كما لن تغفره الأجيال القادمة أياً كانت مبرّرات التخاذل.