البحث عن العدالة اللبنانية في قضية هنيبعل القذافي
خاطب النائب العام في ليبيا الجهات القضائية اللبنانية للإفراج عن المواطن الليبي هنيبعل القذافي الموقوف لديها منذ سبع سنوات، طالبا من السلطات إعمال آليات تسليمه إلى ليبيا، أو تمكينه من المغادرة إلى بلد اللجوء، وعرض التعاون المشترك بين البلدين في قضية اختفاء الإمام الصدر، و"موافاة النيابة العامة الليبية بطلب مساعدة قانونية، التي من شأنها الإسهام في استجلاء حقيقية تغييب الإمام ورفيقيه". حياة هنيبعل، نجل الرئيس الليبي السابق معمّر القذافي، أو موته في سجن رومية اللبناني، على المحك، والاحتمالات مفتوحة في بُعدها الإنساني، وليس القضائي، حيث يعيش الرجل حالة صحية ونفسية صعبة للغاية، في ظل استعصاء الإفراج عنه بعد مضي سبع سنوات على توقيفه بموجب مذكّرة توقيف صادرة بحقّه عن المحقق العدلي القاضي زاهر حمادة. يوجه القضاء اللبناني إلى الإبن الرابع (مواليد 1975، متزوج من عارضة الأزياء اللبنانية ألين سكاف)، تهمة "كتم معلومات تتعلق بمصير الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين (فقدوا في العاصمة الليبية طرابلس عام 1978، إثر وصولهم بدعوة من معمّر القذافي) والاشتراك في جريمة إخفائهم والتمادي في هذه الجريمة منذ 45 عاماً".
وتمثل فكرة اعتقال نجل القذافي في لبنان حالة خاصة من الفهم السياسي للعدالة في الإطار الخلفي لتحميل الشاب تلك النقاشات والأحداث والحوادث المروّعة التي ارتكبها والده وفريقه، وحيث لم يكن في عمر (أربع سنوات) يتيح له أن يكون جزءاً من ذلك النظام الليبي التعيّس. وبالتالي، أساس الواجبات الأخلاقية ، وأساس الواجبات القانونية، التعامل معه بشكل قانوني، والتمتع بحق الحياة وحق الحريّة. وهو يعاني عوارض صحية صعبة، وحالته في الأسابيع الأخيرة "باتت سيئة جداً، فهو يرفض مواجهة أحد أو التحدّث لأي شخص، ويمتنع عن معاينة الأطباء لرصد وضعيه، الصحي والنفسي، ويرفض أخذ أدويته، وبات مقلاً من الكلام ويمتنع عن الخروج للنزهة اليومية، أو التعرّض لأشعة الشمس كما كان يحصل عادة، وثمة خطرعلى حياته".
لا يزال الملف القضائي لهنيبعل القذافي عالقاً عند عقدة أساسية يتعذّر حلّها حالياً، من جهة طلب تعاون دولي
يرفض الوكيل القانوني للقذافي المحامي غسان المولى الحديث عن وضع موكله "ملتزم بتعميم نقابة المحامين الذي يمنع المحامين من الإدلاء بتصريحات إعلامية". استمرار احتجازه بحجّة إحقاق العدالة في قضية سامية تتعلق باختفاء الإمام الصدر ورفيقيه لا توحي إجرائياً بالإنصاف، عندما تتحوّل قضية اعتقاله استدراجاً أمنياً، ومن ظواهر اللامساواة والمنفعية، وهي أمور تتناقض مع النظام المُنصف للتعاون القضائي التبادلي بين لبنان وليبيا.
يتعامل القضاء اللبناني مع خيارات أخرى يريد فحصها (جديدها أخيراً طلب الاسترداد، وتعاون مؤطّر بين جهتي الادعاء في البلدين)، ويستمر في اعتقال القذافي في مسألة معقدة، بعيدة عن مبادئ العدالة المستدلة من أحواله الصحيّة المتدهورة، ونقله أخيراً الى مستشفى، وفي تسويغ استعمال فريق لبناني (مذهبي) أسلوباً غير قانوني خطراً في ضوء المنطق القانوني العام (لعلّ هنيبعل دخل سابقاً في مساومات على الثروة التي يملكها). إذا كان الهدف من تحقيق العدالة إيجاد أساس من المعلومات لجلاء القضية، فإنّ هذه الفرضية تسقط، لعدم التوصل معه إلى ما يكفي من معلومات، واذا وُجدت لا يصدّقها أحد، ولا تشكّل جُرماً لجهة التعامل مع شاب عاجز وسيئ الحظ، لم يستلم أي منصب رسمي في بلده (الأدنى في شجرة عائلته)، فيخضع لمسار تعامل قضائي مساوٍ للطغيان. ما يجري مفهوم جديد للعدالة الحزبية، مؤسّس على ممارسة انفعالية، ومشحونة بانفعال خصوصي عاطفي لمحقّق عدلي. ليس حقيقياً وصحيّاً التعامل مع فردٍ ليبي ليس لديه أي موقع سياسي أو أمني، وتحميله ما صنعه نظام بجبروته، وجريمته أنه وُلد في ذلك التجمّع الإرهابي، وسوّقه بعين مختلفة بالنظر إلى بشر مثله، وحيث لا يوجد هذا الفصل الأخلاقي والاستعلاء والتعسّف، ليس تجاه نظام ليبي انتهى وبلا جاذبية مطلقاً، بل باتجاه فردٍ تعرض للصيد (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
لا يزال الملف القضائي عالقاً عند عقدة أساسية يتعذّر حلّها حالياً، من جهة طلب تعاون دولي، وآخر مُنصف مع القضاء الليبي البديل عن نظام القذافي، وامتناع السلطات الليبية عن التعاون مع المحقّق العدلي القاضي زاهر حمادة (أرسل مرّات عدة مذكرات لتبليغ ضباط وكوادر أساسيين في نظام معمّر القذافي، لكن لم يجر تبليغهم ولم تعد المذكرات وفق الأصول، والسلطات في الدولة العميقة القذّافية تتعمّد تجاهل الطلبات اللبنانية). مسار ضائع بين وجهة نظر لبنانية (هنيبعل موقوف وفق القانون ومن دون أي ظلم، وثمّة إجراءات قانونية ضده مرتبطة بجرائم ارتكبها)، وأنّه "خُطف إكراهاً، وتمّ ضربه ونقله بسيارة من سورية الى لبنان في ترتيب خاص مشترك للمساومة على مبلغ مائتي مليون يورو. ثمّ العمل على إطلاق سراحه وفق آلية قانونية يجرى تنسيقها مع النيابة العامة السورية".
أطراف عدة دخلت على خط الوساطة للإفراج عن القذافي الابن، لكن مساعيها فشلت
يرفض رئيس لجنة المتابعة لملف الصدر ورفيقيه القاضي حسن الشامي تحميل المحقق العدلي مسؤولية ما يحكى عن تدهور الصحة الجسدية أو النفسية للقذافي الابن، وهو غير مقموع، بدليل الرسالة التي وجهها إلى قناة تلفزيونية مشهورة (رسالة له نشرتها "العربية الحدث": "أنا رهينة اعتقال سياسي وابتزاز وقرار احتجازي مسيّس، لم تخصّص لي أي محاكمة، ولم ألتق أي قاض منذ عام 2016"). وتلتمس عائلة القذافي وتصعّد وتهدّد وتدعي اعتقاله ظلماً وتعسّفاً، بينما يربط الشاب الإفصاح عن المعلومات التي لديه بإطلاق سراحه والسماح له بمغادرة لبنان.
يتبيّن أنّ ثمّة أطرافاً عدة دخلت على خط الوساطة للإفراج عن القذافي الابن، لكن مساعيها فشلت. تعتري الملف الثقيل ثغرات لجهة عدم التنسيق كفاية مع مدّعي عام التمييز في لبنان، وأخطاء قانونية وطعن في القرارات، ويخضع لمساوماتٍ سياسية متعدّدة الأطراف، وأي تحرك يأخذ معاني مذهبيّة، حيث لا يجرُؤ المحامون على تناوله، بانتظار "القرار السياسي عند الرئيس نبيه برّي (رئيس البرلمان اللبناني)". وهذا إحراج آخر للجسم القضائي اللبناني.
وقصة وفاة هنيبعل القذافي في السجن خطرة جداً، لا تتحمّلها الطائفة الشيعية نفسها، ولا الدولة اللبنانية، بوصفها قضية أخلاقية/ إنسانية/ سياسية، تحاصر ما تبقى من سمعة لبنان ومؤسّساته القانونية. ليس المطلوب قانون عفو متعذّر (من أعمال الحرب)، فقط إرساء فلسفة التقاضي الخاضع لقوانين يملكها مختّصون بالملف، وتقديم الحجّة الكاملة للعدالة بوصفها إنصافاً في تعامل إنساني محققاً وجود ذاته. ما يؤمل به قانوناً طبيعياً ألّا يُسمح بموت الناس في السجون، وإخضاعها للإكراه والخديعة والتعسّف، وإعطائها فرصة عدالة متساوية بمعزل عن جذورها العائلية، وليس تعرّضها لمبدأ المحاصصة في ثرواتها. ما قد ينجم عنه إسقاط معنوي لقضيّة الصدر العادلة، وبواقع قوة المؤيدين لها. الاعتراض هو بشأن الانحراف عن دعوى حقّ عام لبناني في جوهرها، وإخفاق خطير في مفهوم العدالة بتطبيقاتها، وخطورة توليد حالات مماثلة.