البابا الذي أراد أن يصبح جزاراً

12 فبراير 2022

البابا فرنسيس على شاشة التلفزيون الإيطالي في روما (6/2/2022/Getty)

+ الخط -

يشكّل البابا فرنسيس ظاهرة القرن الواحد والعشرين، مثلما شكل نلسون مانديلا ظاهرة القرن العشرين، كل من موقعه ودوره وبقيمهما الإنسانية والعالمية المشتركة. يستمر هذا الرجل الأبيض في مفاجأة العالم وإثارة إعجاب الكثيرين، لأنه لا يتوقف عن إثارة قضايا وطرح أفكار لا يجرؤ أحد على التصدّي لها من زعماء العالم، لا في الغرب ولا في الشرق، ولا في ما يعرف بالعالم الحر ولا في عوالم الاستبداد والاستغلال. لم يعد بالتأكيد مجرّد بابا روما أو رأس الكنيسة الكاثوليكية فحسب، وأول ما يصدح به صوته هو إدانته المستمرّة لكل أنواع التمييز بين البشر، ملاقيا ومكملا ما كان يجسّده مانديلا الذي شاءت المصادفات أن يموت في السنة نفسها التي انتخب فيها فرنسيس على رأس الكنيسة الكاثوليكية، وكأنه أراد أن يسلمه الأمانة بعد وفاته، فقد رفع الحبر الأعظم، منذ تبوئه السدّة البابوية، لواء مناصرة الضعفاء والدفاع عن المظلومين والمضطهدين والفقراء والمهمّشين والمنبوذين، وتبنّى بالأخص قضية المهاجرين الهاربين من قمع وظلم حكام وأنظمة دولهم (ومعظمهم من دول المشرق والمغرب العربيين)، وحقهم في أن يلقوا حسن الاستقبال في دول اللجوء الأوروبية، وكأنه يدين، بطريقة غير مباشرة، تلك الأنظمة عندما تكلم، أخيرا، مثلا عما سماها "معسكرات النزوح" في ليبيا. وربما في هذا الأداء وفي هذا الخط الذي انتهجه أراد أن يصحح مسار من سبقه من أسلافه، ويتقدّم باتجاه كنيسة المسيح الإنسان التي صدح بها في هذا الشرق كصوت في البرية الأسقف اللبناني غريغوار حداد عشرات السنين.

يرفض البابا فرنسيس أن تكون للدين سلطة المحاسبة وإصدار الأحكام والفتاوى

الأهم في مسيرة هذا الرجل وما يميزه معركته الإصلاحية داخل الكنيسة، والتي لم يجرؤ عليها أحد من البابوات قبله، وقد سلكت خطين متوازيين، انطلاقا من حربه على المفاهيم والمعتقدات الخاطئة وتحطيمه التابوهات، الكنسية منها والاجتماعية. وثانيا في تصدّيه لظاهرة الفساد المعشش في أروقة الفاتيكان، والمنتشر في داخل المؤسسة الكنسية بشكل عام، بأشكاله المختلفة من رشوة ومحسوبيات واستغلال للسلطة. وجديده قبل أيام تصدّيه لما يعرف بالإكليروس، العصب الأساسي للهرمية داخل الكنيسة المؤسسة، أي رجال السلطة الفعليين والعمود الفقري الذي يقوم عليه نظام الكنيسة وتأثيرها ونفوذها الفعليان، كسلطة متوغلة في عمق المجتمع، فقد رأى فرنسيس أن الإكليروس يشكل أيديولوجية خطرة تريد أن تحتكر الإنجيل، وتتصرّف في رسالته، إلى درجة أنهم يشكلون حاجزا بين الكنيسة والمؤمنين، فيما هم معروفون لدى العامة بـ"الجيش الأسود" الذي ينتشر بكثافة في المؤسسات الرهبانية والأديرة الحاضرة والناشطة جدا في الحقل الاجتماعي والتربوي، وحتى السياسي منها، وخصوصا في الدول المتخلفة. تشكّل هذه النظرة المستجدّة والمفاجئة من البابا ضربة في العمق لمفهوم (وظاهرة) الإكليروس التي تشكل الحلقة الوسطية، وإنما المفصلية، في العلاقة بين الكنيسة والناس، والتي تشكل الاداة الأنجع لانتشار المؤسسة الكنسية، ولبسط سلطتها الدينية، وإحاطتها بهالةٍ من الهيبة والرهبة في الوقت نفسه. وقد أراد فرنسيس، على الأرجح، أن يكسر هذه الحلقة التي باتت عائقا يمنع تواصل الكنيسة مباشرة مع الناس، والتي يريدها فرنسيس أن تعيش معهم وبينهم وتتفاعل معهم، في ما وصفها بـ"كنيسة الشعب". واللافت أكثر فأكثر أنه قال هذا الكلام، ليس خلال عظة أو احتفال ديني رسمي أو عبر إحدى إطلالاته المعهودة على جموع المؤمنين التي تحتشد كل نهار أحد في ساحة القدّيس بطرس في حاضرة الفاتيكان، وإنما عبر شاشة إحدى أقنية التلفزيون الإيطالي، ضيفا على برنامج غير سياسي ذي طابع ساخر، تتخلله عناصر التسلية والفكاهة. ويتوجّه، في لحظة ما، مفاجئا مقدّم البرنامج إلى المشاهدين بوجهه البشوش، وبدون تكلّف، طالبا أن يصلوا له، ويحرص أن يشرح لهم أن الصلاة هي، برأيه، كما يفعل الطفل عندما ينادي أمه أو أباه. ثم يستدرك: "إذا كنتم لا تحبون الصلاة أو لستم مؤمنين، فبإمكانكم أن تدعوا لي بالخير وتتمنوا لي التوفيق". وكانت إطلالة البابا، وما طرحه وبأسلوبه المبسط وشخصيته المحببة، الحدث على ما عداها، سواء من أحداث سياسية أو بالنسبة لوباء كوفيد أو للكباش الروسي الغربي بشأن أوكرانيا او حتى بالنسبة للأحد الرياضي الكروي. لقد أراد، في إطلالته هذه، أن يخاطب الناس مباشرة، وأن يحاورهم، وأن يصل إلى قلوبهم، وأن يحرّك عواطفهم وأحاسيسهم، ويستثير نوعا جديدا أو مختلفا من الإيمان والعلاقة مع الدين والنظرة إلى الحياة. عندما يثير هذا النوع من القضايا، ويطرح مثل هذه الإشكالات، فإن رأس الكنيسة الكاثوليكية لا يخاطب السلطة، ولا يتوجه إلى السياسيين ومسؤولي الأحزاب أو أصحاب النفوذ، وإنما إلى الناس مباشرة، وبالأخص الشباب منهم. كما أنه أراد أن يحاور كل شرائح المجتمع، بطبقاته وانتماءاته الدينية المختلفة، فهو لا يخاطب المسيحيين أو المؤمنين فقط، وإنما ايضا العلمانيين الذين بات دورهم أساسيا في الكنيسة ومشاركتهم في طقوسها، كما أنه يحرص بشكل خاص على التوجه إلى الملحدين أو "اللاأدريين"، لأنهم أناس وبشر، ولأن هدف المسيحية، كما يكرّر، إسعاد الإنسان يغض النظر عن جنسيته ولونه ودينه وعرقه وموقعه الاجتماعي.

الأهم في مسيرة فرنسيس وما يميزه معركته الإصلاحية داخل الكنيسة، والتي لم يجرؤ عليها أحد من البابوات قبله

أما المدماك الآخر الذي وضعه ضمن منظومة رؤيته التجديدية فهو مفهومه للدين خلاصا للذات البشرية، ولإسعاد الإنسان، وليس لوضعه تحت ما يشبه الرقابة بغرض إرعابه وقمعه وتخويفه من حساب عسير ينتظره، ولإخافة العامة من الله والدين، وجعلهم كالقطيع ينتظمون في الصفوف والطاعة. يرفض البابا هذا الواقع، وما يعتبره تشويها للإيمان، وتحويله أداة للقمع والتسلط والجهل. ويرفض أن تكون للدين سلطة المحاسبة وإصدار الأحكام والفتاوى، وليس له بالتالي صفة الديان، لأن الدين هو سلوك ونمط حياة وجوامع مشتركة قيمها الحب والتسامح والأخوة التي يدعو إليها فرنسيس باستمرار، على اعتبار أن البشر سواسية، مثلما أن التعثر أو الخطا هو أيضا من طبيعة الإنسان. لذلك، التسامح والمغفرة وليس الإدانة تصبح من حق الإنسان على الجماعة، ومن حق الجماعة على الإنسان الذي هو، في النهاية، ماهية الحياة، وهدف الدين إسعاده، لأن المسيح هو الإنسان. وكذلك ليس لرأس الكنيسة أن يفرض الإيمان بقوة سلطته، بل له أن يدعو ويتكلم عنه وييشر الجميع به، ويخاطب الجميع وليس المسيحيين فقط، مؤمنين وغير مؤمنين، أغنياء وفقراء، يمينيين ويساريين، أصحاب سلطة وعامة الشعب، متعلمين أو جهلة، كبارا أو صغارا.

في إطلالته التلفزيونية الخاصة، قضى فرنسيس عمليا على كل أنواع المحرمات والخرافات بشأن مفهوم الدين السلطة أو "الفزيعة"، وحلل وحرّر كل أنواع العلاقات الاجتماعية والبشرية، جاعلا من الإيمان أو التقوى خيارا حرا، بشريا وإنسانيا. وتعاطى بطريقة إنسانية على حقيقتة وعفويته، نازعا عنه هالة الحبر الأعظم التي يراه فيها السواد الأعظم من الناس، ويهابه لأجلها كثيرون، فقد شارك في الحلقة التلفزيونية وتناغم مع البرنامج وشارك الموسيقى والغناء كأي مواطن عادي. كما أنه لم يجد حرجا في الكلام عن نفسه، والبوح إنه لمّا كان طفلا أرجنتينيا كان يحلم عندما يكبر بأن يصبح جزاراً، ويضع النقود التي يجنيها في جيب البرنس البيض الذي يرتديه .. وإذ به يصبح رجل دين على رأس أكبر كنيسة كاثوليكية في العالم، ينتظم تحت رايتها مليارات المؤمنين!

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.