الانقلاب في تونس يكمل أركانه
مع التدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس التونسي، قيس سعيّد، يوم 22 سبتمبر/ أيلول الحالي، تكتمل أركان الانقلاب بارزة للعيان من دون أي التباس. كان وصف ما حدث يوم 25 يوليو/ تموز انقلابا يثير تحفظات عديدة، سواء من السياسيين أو من خبراء القانون الدستوري. ونتذكر ما تعرّض له عياض بن عاشور، حينما وصفه انقلابا، وكان أول أساتذة القانون الدستوري تجرأ مبكّرا، وتحدث عن "انقلاب كامل الأركان"، لكن الرجل ظلّ أياما عديدة محاصرا، وعرضة للسحل الإلكتروني، من أنصار سعيّد ولفيفٍ واسعٍ من الإعلاميين. لاذ بالصمت، لكنه ظل يعبر في صفحته في "فيسبوك" عن قناعته هذه، مع معرفته أن الفضاء الافتراضي فضاء الأمية والعنف بامتياز، حتى أنه دعا إلى اعتبار الاحتقار فضيلةً في هذه الحالة. غير أن ذلك الحكم المسبق سرعان ما غدا قناعةً لدى أوساط عديدة، تتسع من يوم إلى آخر. ما لم يكن مردّه التدقيق في الفتاوى القانونية وما أكثرها، وإنما ما يأتيه الرئيس سعيّد على الأرض يدفع باستمرار إلى تبنّي هذا الموقف، ففي المرات التي أطل فيها عبر وسائل الإعلام، وعادة ما تكون أجنبية، كان الرجل يرغي ويزبد، ويصف خصومه بمفردات مستوحاة من معجم طبي خطير على غرار الجراثيم والفيروسات، ثم انتقل إلى التخوين ونزع الوطنية عنهم، واتهامهم بالعمالة، وهذا معجم لم يستعمله حتى بن علي مع خصومه. وفي الوقت نفسه، كان يزدري حتى من دعمه في انقلابه، من خلال تلك "المساندة النقدية" التي عبّر عنها بعضهم، سواء الأحزاب أو الهيئات المهنية التي وقفت معه بعد الانقلاب، والتقته غداته. لقد دعاهم جميعا إلى التوجه الى كتب الجغرافيا، حتى يعثروا على خارطة الطريق التي طالبوه بها.
يوغل الرئيس التونسي في الهروب الى الأمام، فيصدر ما سمّاها تدابير استثنائية، ألغت تقريبا الدستور وجعلته جثة ممزّقة
لم يصدّق حلفاء سعيّد أنه لا يعبأ بمطالبهم الدنيا، وقد دعوه إلى إشراكهم في بلورة خريطة طريق تنقذ البلاد، فاذا به يمعن في تحقيرهم، حينما ذكرهم تلميحا في خطابه الكارثة في مدينة سيدي بوزيد، يوم 21 سبتمبر/ أيلول الحالي، أنهم طلاب كراسي، طامعون في المناصب والمغانم. ولم يفوّت الرئيس تلك الخطبة التي حاول أن يستثمر فيها رمزية مدينة سيدي بوزيد، حينما وصف منظّمي وقفة 18 سبتمبر الاحتجاجية أمام المسرح البلدي في العاصمة تونس بأنهم مخمورون ومأجورون. والحال أن منظميها قد حصلوا على رخصة من وزارة الداخلية، وهم محامون وجامعيون ونشطاء حقوقيون، وقد عمدوا إليها من أجل اختبار سعة صدر الرئيس لتقبل الرأي المخالف، والبرهنة على أن الشعب ليس كتلةً صمّاء تقف وراءه، إنما فيه فئات تختلف مع ما يطمح إليه، فضلا عن التدرّب على استعمال الشارع في معارك مقبلة، وخرق جدار الصمت وثقافة الخوف التي عادت لتعقد ألسن نشطاء عديدين، خصوصا في ظل الشلل الذي أصاب حركة النهضة وبهوت بقية الأحزاب والمنظمات المهنية. كانت تلك الخطبة كارثة، ودفعت مباشرة أحزابا عديدة إلى إصدار بيانات استنكار لما تضمنته عموما من خطاب كراهية يزرع الحقد بين التونسيين، ويزدري الأصوات المعارضة لها. ومع ذلك، يوغل الرئيس في الهروب الى الأمام، حينما يصدر بعد يومين ما سمّاها تدابير استثنائية، ألغت تقريبا الدستور وجعلته جثة ممزّقة، مستحوذا على كل السلطات بحكم قوة الأمر الواقع، فتحوّل فعلا كما وصفته صحيفة فرنسية "السيد الأوحد والمطلق" الذي يحكم تونس.
أنصار سعيّد يتراجعون بشكل سريع، وصورته تأفل. في المقابل، يستعيد مناهضوه وخصومه بريقهم، رغم تشتتهم وخلافاتهم العميقة
اكتمل شهران على الانقلاب، وشعبيّة الرئيس تتراجع بشكل سريع، في انتظار أيام عصيبة ستمر بها تونس، خصوصا في ظل الصعوبات الاقتصادية الجمّة التي تواجهها. ويقرّ خبراء عديدون بأن ثقافة الرئيس الاقتصادية ضعيفة، وهو لا يولي أي أهمية لها. بل إنه كرّر، في مناسبات عديدة وضمن مفردات الخطاب الشعبوي، أن تونس بلد ثري، ولا يحتاج مساعدات، وما حل به ناجم عن الفساد فحسب. ويجد هذا الخطاب هوى لدى فئات عريضة من التونسيين، فيما الحال أن الأزمة أعمق.
يؤجل الرئيس تعيين رئيس الحكومة الذي أصبج موظفا ساميا لدى الرئاسة، بحكم التدابير الاستثنائية، وهو ما سيحمّل الرئيس كل المسؤوليات التي ستكون الاختبار الذي سيخفق فيه إخفاقا ذريعا. ولا يبدو أن الرجل مكترث بما يوجَّه إليه من لوم وعتاب من بلدان صديقة، لها شراكات اقتصادية وأمنية وثيقة مع تونس، منها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. بل إنه يوجه، في خطاباته الأخيرة، رسائله صراحة إليها، حينما يقول "أقول للعالم". ويذكر في بلاغات (بيانات)، يبدو أن يكتبها بنفسه "إن تونس ليست تلميذا يتلقى دروسا من غيره". والحال أنها صورة سلبية للتلميذ ذاته، ولكن البلد يحتاج هؤلاء الأصدقاء، للإعانات التي يقدمونها في سياق صعب، ولأنهم أيضا مثلوا ضماناتٍ، حيثما توجه البلد للاقتراض من الهيئات الدولية الممولة، وقد ظلوا يعتبرون تونس بلدا ينتقل نحو ديمقراطيةٍ يمكن ان تكون ملهمة لغيرها، على الرغم مما عرفته التجربة من تعثر، وهم لسوا مستعدّين لتمويل نظام استبدادي عواقبه وخيمة على المنطقة.
أنصار سعيّد يتراجعون بشكل سريع، وصورته تأفل. في المقابل، يستعيد مناهضوه وخصومه بريقهم، رغم تشتتهم وخلافاتهم العميقة. وككل المعارك التي خاضها التونسيون ضد الاستبداد، ستكون الغلبة لهم، ولو بعد حين.