الانفصاليون وتهديد الوحدة الوطنية في الجزائر
أعادت حادثة الاعتداء على رجال الشرطة في مدينة تيزي وزو في منطقة القبائل في الجزائر، يوم 20 إبريل/ نيسان الجاري، في مسيرة إحياء الذكرى 41 لما سمي الربيع الأمازيغي، حركة انفصال منطقة القبائل (ماك) إلى واجهة الأحداث. وهي تأسست في العام 2002 برئاسة الناشط السابق في الحركة الثقافية الأمازيغية فرحات مهني. وبدأت بالدعوة إلى إقامة حكم ذاتي في المنطقة، قبل أن تتطوّر إلى مطلب انفصال تام عن الجزائر. شكّلت الحركة في باريس حكومة العام 2010، لا تعترف بها وتساندها سوى إسرائيل، التي تقوم بتمويل الحركة، وتحرص على إبراز نشاطاتها ودعمها، وترتبط بعلاقات وثيقة معها. أما فرنسا، وإنْ كانت لا تعترف بالحركة رسميا، إلا أنها تغضّ الطرف عن نشاطاتها فوق التراب الفرنسي، وعن خطابها الانفصالي التحريضي، والذي يجد رواجا في الأوساط اليمينية المتطرّفة. وسعت "ماك"، بكل ما تملك من أدوات، إلى التحريض على الجزائر في المحافل الدولية، مستغلة الهوية الأمازيغية مبرّرا لوجودها، ونقلها من مطلب ثقافي هوياتي إلى تيار عرقي متطرّف، يسعى إلى تفتيت الجزائر وتقسيمها.
سريعا جاء الرد من أكبر الأحزاب الأمازيغية وأقواها في منطقة القبائل، جبهة القوى الاشتراكية، والذي أسسه المرحوم الحسين آيت أحمد، وهو من قادة ثورة التحرير الجزائرية، حيث قال أمينها العام يوسف أوشيش إن حزبه "لن يقف مكتوف اليدين تجاه من يسعى إلى تفتيت هذه الأرض المقدسة تحت أي مسمى كان، كما لن يقف موقف المتفرّج تجاه مثيري النزاعات، والمتلاعبين بالحساسيات، والمتّخذين منها سجلا تجاريا لأغراض انتخابية أو لأغراض شخصية ضيقة".
من الضروري التمايز الصريح بين مناضلي الأمازيغية في بُعدها الثقافي اللغوي، وأصبحت بفضلهم الأمازيغية لغة وطنية دستورية، والانفصاليّين الذين يُشكلون خطرًا على الدولة
أثارت الأحداث التي شهدتها تيزي وزو ردود فعل شعبية وسياسية تنديدا باعتداء عناصر ينتمون لحركة "ماك" الانفصالية على قوات الأمن خلال مظاهرات لتخليد ذكرى الربيع الأمازيغي. هل يكفي التنديد في مثل هذه المواقف، أم أن الأمر بحاجة إلى وقفة جادّة من السلطة تجاه مثل هؤلاء الذين يعبثون بمصير الأمة والدولة، خصوصا بعدما أصدرت وزارة الدفاع بيانا تقول فيه إنها اكتشفت "خلية من المنتسبين للحركة الانفصالية (ماك) متورّطين في التخطيط لتنفيذ تفجيرات وأعمال إجرامية وسط مسيرات وتجمعات شعبية بعدة مناطق من الوطن"، وأنها حجزت أسلحة حربية ومتفجرات كانت بحوزتها.
يتذكر الجزائريون بأسى شديد خضوع نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى مطالب تعجيزية في العام 2002، لم تكن لتحدث، لولا فشل النظام في إدارة أزمة منطقة القبائل. سحب بوتفليقة يومها، لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة، وحدات الدرك الوطني، وهي وحداتٌ تابعة للجيش الجزائري من منطقة تيزي وزو، في قرار غير دستوري أصاب هيبة الدولة في مقتل، قيل إنه كان محاولةً لتخفيف حدّة أعمال العنف في تلك المنطقة التي أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى. وقد أخرج القرار منطقة جزائرية من سيادة الدولة، وتركها ساعتها فريسةً لدعاة الانفصال يعبثون بها كيفما يشاؤون، بالتغرير والترهيب لقطاعات واسعة من الشباب الجزائري، المغلوب على أمرهم، بوطأة البطالة وأزمة الإسكان، ونقص التنمية وعدم الاهتمام. من يومها، تجرّأ دعاة الانفصال على رفع صوتهم، وانتهزت أحزاب أمازيغية أخرى الموقف للضغط على السلطة لتحقيق مآرب شخصية أو حزبية ضيقة.
الحوار الوطني ضروري لإسهام كل قوى التغيير في التنمية الوطنية، وفي الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلامة الترابية للبلاد
لا يستدعي الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلامة الترابية للبلاد فلسفة كثيرة، وتنظيرا لا طائل منهما، فمن الضروري التمايز الصريح بين مناضلي الأمازيغية في بُعدها الثقافي اللغوي، الذين أصبحت بفضلهم الأمازيغية لغة وطنية دستورية، والانفصاليّين الذين يُشكلون خطرًا على الدولة باعتبارها كيانا وطنيا. وعلى السلطات أن تستعمل كل أوراقها القانونية المشروعة، وكل هيبتها الدستورية، للحفاظ على مكوّنات الأمة ووحدتها، وأن تعمل على عدم ترك كرة الثلج تتدحرج إلى هاوية سحيقة من تقسيم الوطن الذي سالت من أجل وحدته دماء الشهداء الأبرار.
معروف أن التنوع الثقافي والتعدد اللغوي الذي تحظى به الجزائر لا يقتصر على منطقة القبائل، بل يمتد إلى ربوع البلاد كلها، من أقصاها إلى أقصاها، من الشاوية والطوارق، والشلح، والقصور وشناوة، وبني سنوس وغيرها، وهو يشكل عامل قوة واستنهاض للشخصية الجزائرية، ولا يجب أن يبقى حبيس منطقة بعينها، أو فصيل سياسي بذاته. كما أنّ على السلطات العليا في البلاد إعادة التفكير في منهجية الاحتواء السياسي لمنطقة القبائل، فلا يمكن، وتحت أي ذرائع أو مبرّرات، بقاء هذه المنطقة خارج نطاق الاهتمام السياسي للدولة، ذلك أن تكرار فعل مقاطعة الانتخابات في منطقة القبائل، ووقوف السلطة موقف اللامبالاة منه، وكأنه أمر عادي، يُعدّ أمرا خطيرا على وحدة البلاد وانسجامها. فتغييب منطقة القبائل من دون سائر مناطق البلاد عن الانتخابات يُعدّ، في العرف السياسي، عصيانا مدنيا خطيرا على وحدة الدولة وانسجامها. صحيحٌ أن الانتخابات في الجزائر لم ترتق بعد إلى الشفافية والنزاهة المطلوبتين، وهو ما كان سببا في إعلان حزبي جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية مقاطعة مواعيد انتخابية كثيرة، ومنها الانتخابات النيابية في 12 يونيو/ حزيران المقبل، غير أن فعل المقاطعة عند بعض المتطرّفين كان وسيلة لاستعمال العنف اللفظي والجسدي، من أجل منع سكان منطقة القبائل الآخرين، غير المقاطعين للانتخابات، من الاقتراع، وهو فعلٌ مدانٌ في كل الشرائع القانونية، لأن العمل السياسي، فرديا كان أو جماعيا، يأتي بالإقناع وحرية الاختيار، وليس بالابتزاز، أو المنع بالقوة.
تأسست حركة انفصال منطقة القبائل كياناً انفصالياً وتقسيمياً متشدّداً، دعا إلى حمل السلاح، وهدّد الوحدة الوطنية والترابية للجزائر
على السلطة أن تعرف أن سكان منطقة القبائل ليسوا كلهم من فصيل سياسي واحد، أو من اتجاه مطلبي واحد. وعليها عدم ترك المنطقة فريسة لضغط فصيل سياسي يتلاعب بسكانها ويرهنهم لمزايداته السياسية. ولا يحتاج سكان منطقة القبائل إلى دليل على وطنيتهم وإخلاصهم لبلادهم، فلقد امتزجت دماؤهم بدماء إخوانهم من المناطق الأخرى لتحرير الجزائر من الاستعمار، وفي تعزيز هوية الجزائر المسلمة العربية والأمازيغية. حاول بعض الانفصاليين استفزاز مشاعر الصائمين في تيزي وزو بالأكل في نهار رمضان وشرب الخمر، جهارا نهارا. لو بقي الأمر في إطاره الشخصي لهان، ولما أثار الفضول، والاستياء، ولكنه كان عملا استفزازيا، ذا بُعد سياسي وبشكل جماعي، كانت مسرحه ساحة الزيتونة في المدينة. جاء الرد من القبائل الأحرار، بإفطار جماعي وأداء لصلاة المغرب جماعة في المكان نفسه، الذي استُفزّت فيه مشاعرهم الدينية والوطنية قبل يوم.
معالجة الأمر في منطقة القبائل لا يأتي بتجاهلها سياسيا، وتركها غنيمة للانفصاليين وذوي النيات السياسية المُبَيَّتة. معالجة الأمر في الجزائر برمتها لا يأتي بالهروب إلى الأمام. لا يتم تدارك الوضع إلا بقراءة متأنية، وسن منهجية جديدة لتحقيق مطالب الحراك الوطني الذي يصدح في شوارع الجزائر منذ 2019 بشعاراتٍ يمكن تكييفها بما يخدم مصالح الوطن، بعيدا عن شوفينية السلطة وتعنتها، وبعيدا أيضا عن بعض المطالب التعجيزية التي يرفعها بعض الناشطين في الحراك، فالحوار الوطني ضروري لإسهام كل قوى التغيير في التنمية الوطنية، وفي الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلامة الترابية للبلاد.
تأسست حركة انفصال منطقة القبائل كيانا انفصاليا وتقسيميا متشدّدا، دعا إلى حمل السلاح، وهدّد الوحدة الوطنية والترابية للجزائر. حاول بعضهم تبرير وجوده والتعامل معه بمنطق نقاش الأفكار، والرأي والرأي الآخر، وهو ما يعتبر خيانة بواح. ذلك أن التسامح والتساهل مع مثل هذه الأعمال يفتح الباب لمزيد من الانحرافات، ويشجّع من تقف وراءهم أيادي الاستعمار القديم وإسرائيل، لمزيد من ضخ الوهن في جسد الوطن الواحد، بل ويفتح ذلك الأمر الباب على مصراعيه، للشقاق وللصراعات الإثنية والعرقية في المنطقة المغاربية كلها.