الانتهازية السياسية .. منصور عبّاس نموذجاً
تصريحات رئيس "القائمة العربية الموحّدة" في الكنيست الإسرائيلي، منصور عبّاس، قبل أيام أن "إسرائيل دولة يهودية .. وستبقى يهودية" لا ينبغي أن تكون مفاجئة لأحد، ليس لخلفية براغماتية عرف بها الرجل فحسب، بل لأنه أيضاً مجرّد شاهد على شريحة معتبرة في صفوف "مُتَأدْلِجينَ"، من كل الخلفيات والتيارات الفكرية والسياسية، الذين يتحيّنون الفرص لتبرير السقوط والتردّي الأخلاقيِّ والمبدئيِّ في سبيل مصالح شخصية وسياسية ضيقة. هذه الشريحة، العابرة للانتماءات الأيديولوجية، ومنتسبوها يتعمدون الخلط بين ما هو استراتيجي وفيه خدمة للصالح العام وما هو تكتيكي وفيه انتهازية لا تخدم إلا أجنداتهم وطموحاتهم الخاصة. جُلُّنا يمكنه أن يستحضر أسماء ورموزاً كثيرة معروفة في فضائنا العربي مارست هذه الانتهازية، فكم من "جهاديٍّ" عتيد، و"مناضل" شرس، وَمُنَظِّرٍ في الحريات والديمقراطية، لا يشقّ له غبار، انتهى بهم المطاف اعتذاريين عن أنظمة قمعية، هذا إن لم يتحوّلوا إلى أدواتٍ في ترساناتها للقمع والبطش والتزييف والتلبيس على الناس.
إذاً، المسألة لا تتعلق بالخلفية الأيديولوجية والانتماء الحزبي والسياسي، بقدر ما أنها تتعلق برسوخ المبادئ وتمثلها، وأيضاً في القدرة على التمييز بين ما هي منافع ذاتية، وتجاوزها، وما هي منافع عامة والسعي إلى تحقيقها بأقل المساومات الفكرية والسياسية، وبشكلٍ لا ينقض إطار المبادئ الكليّ. ضمن هذا السياق، ليس منصور عباس حالة شاذّة، ومسألة انتمائه إلى حركة إسلامية، حتى وإن لم تكن هي التعبير الأصيل عنها في الداخل الفلسطيني عام 1948، تصبح قضية هامشية على أساس أن هذا داءٌ عضال تعاني منه جميع التيارات والتنظيمات السياسية بتلاوينها الأيديولوجية كافة.
أصرّت "القائمة العربية الموحدة" على تضمين الاعتراف بقرى بدوية فلسطينية غير معترفٍ بها في النقب
في شهر يونيو/ حزيران الماضي، حسم عبّاس وقائمته النيابية في الكنيست الإسرائيلي أمرهم وقرّروا دعم الائتلاف الحكومي بين اليمين واليسار والوسط، الذي يتزعمه حزبا "يمينا"، برئاسة رئيس الوزراء الحالي، نفتالي بينت، و"يوجد مستقبل"، برئاسة وزير الخارجية الراهن، ونظرياً، رئيس الوزراء القادم عام 2023، يئير لبيد. ما كان لهذا الائتلاف أن يطيح رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، وحكومته لولا الأصوات الأربعة التي أمّنتها "القائمة العربية الموحدة". كانت تلك أول مرّة يشارك فيها حزب عربي في حكومة إسرائيلية منذ قيام الدولة العبرية عام 1948. حينها، برّر عباس تلك السابقة التي أثارت هزّة كبيرة في أوساط فلسطيني عام 1948، إنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل خدمة وحماية مصالح "المجتمع العربي". وفعلاً، فقد أصرّت "القائمة العربية الموحدة" على تضمين الاعتراف بقرى بدوية فلسطينية غير معترفٍ بها في النقب، وتجميد قانون كيمنتس الذي تستند إليه السلطات الإسرائيلية في هدم منازل الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، بذريعة عدم الترخيص، وكذلك زيادة ميزانيات البلدات العربية لتطوير الإسكان والتخطيط والخدمات.
قد يجادل بعضهم إن تلك مطالب مشروعة وواقعية، خصوصاً وأن فلسطينيي الداخل يعانون من سياسات إسرائيلية تمييزية تتعامل معهم على أنهم مواطنون من درجة ثانية بعد اليهود. وقد يضيف آخرون أن نهج المعارضة داخل الكنيست الإسرائيلي، على مدى عقود، الذي اتبعته الأحزاب العربية التي تشارك في انتخاباته لم تحقق لفلسطينيي عام 1948 الكثير. وقد يذهب طرفٌ ثالث إلى أبعد من ذلك بالقول إن القيادة الفلسطينية الرسمية استثنت، عملياً، فلسطينيي الداخل من مشروعها، وتركّز فقط على الأراضي المحتلة عام 1967 وسكانها. ومن ثمَّ، ما المانع هنا أن تجرّب قائمة عربية في الكنيست طريقاً جديداً يضمن مصالح ناخبيها ومجتمعها وحقوقهم؟
يرسّخ منصور عباس مفهوم دولة الأبارتهايد الإسرائيلية التي أنشأتها الحركة الصهيونية، ويضفي مشروعية الضحية عليها
لا أريد الاستطراد في أن كثيراً من تلك الوعود لم تتحقق، على الأقل، حتى الآن. الأخطر هنا أن منصور عبّاس يقارب تلك المطالب تكتيكياً لا استراتيجياً، وبشكل فيه كثير من الخفّة والرعونة، بل والانتهازية الشخصية. لم يكتفِ عبّاس بمقايضة ذلك بالصمت عن التوسّع الاستيطاني تحت حكومة بينت في الضفة الغربية، ولا بمضي الحكومة التي يوفر لها شبكة الأمان في تهديد سكان حيِّ الشيخ جراح في القدس المحتلة بالتهجير والطرد، ولا بهدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية وشرقيَّ القدس، ولا باستمرار حصار قطاع غزة، ولا بجرائم القتل التي ترتكبها سلطات الاحتلال بحق الفلسطينيين العزّل، ولا الاعتقالات اليومية التي تطاولهم، ولا حتى بالاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى ومساعي تهويد المدينة المقدسة .. إلخ. ذلك كله لا يبدو أنه يعني شيئاً له، وقد سبق أن لمح مرّات عدة إلى أن أياً من ذلك، بما فيه شنُّ عدوان عسكري وحشيٌ جديد على غزة، لن يؤثر على استقرار الحكومة وتماسكها المرهونين بأصوات نواب قائمته الأربعة. للأسف، نجد أن عبّاس يمضي إلى أبعد من ذلك بكثير، وهو ما كشفت عنه تصريحاته أخيرا عن "يهودية" دولة إسرائيل.
في التصريحات التي استُهل بها هذا المقال، يوضح عباس فهمه للمسألة: "إسرائيل ولدت كدولة يهودية، وهذا هو قرار الشعب اليهودي الذي أقام دولة يهودية، والسؤال هو ليس ما هي هوية الدولة، فهي هكذا ولدت، وهكذا ستبقى"! ولكن ما هو السؤال الذي يطالبنا بالتركيز عليه؟ لنستمع إلى الإجابة منه: "السؤال المهم هو ما هي مكانة المواطن العربي والمجتمع العربي في دولة إسرائيل اليهودية؟ هذا هو السؤال"! بمعنى أن عباس يرسّخ مفهوم دولة الأبارتهايد الإسرائيلية التي أنشأتها الحركة الصهيونية، ويضفي مشروعية الضحية عليها وعلى ما يعرف بـ "قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل" الذي أصدره الكنيست عام 2018، والذي يُعَرِّفُ إسرائيل على "أنها دولة قومية لليهود"، وأن اليهود وحدهم من لهم حق حصري بممارسة "حق تقرير المصير في دولة إسرائيل"، التي هي قائمة على "أرض إسرائيل، الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، والذين لهم وحدهم حق الهجرة إليها والتمتع مباشرة بحقوق المواطنة.
بنى عباس مجده السياسي، إلى حد بعيد، على ادّعاء الفضل الحصري في الإنجازات التي كان يحققها النواب العرب في الكنيست
بعد هذا كله، ماذا تبقى من الوعود التي بشر بها عباس؟ لقد سبق له القول إن قائمته دخلت "إلى الائتلاف الحكومي من أجل حماية وجودنا وأمننا وهويتنا وحقوقنا ومكاسب مجتمعنا العربي". أهكذا تكون حماية هذا الوجود والأمن، وهذه الهوية والحقوق والمكاسب؟ ببساطة، هذا ترسيخ لنظام فصل عنصري يجعل من الفلسطينيين على أرضهم المحتلة وفي وطنهم "أشبه برعايا أجانب مقيمين لا مواطنين"، كما يقول الأكاديمي الفلسطيني، إبراهيم أبو جابر. وهذا يقودنا إلى المعطى الآخر إن عباس يقوم بذلك من باب الانتهازية السياسية الذاتية الرخيصة، ولعل في انتشائه بالوصف الذي يسبغ عليه من أنه "صانع الملوك" في الدولة العبرية ما يؤكد ذلك.
عودة الآن إلى ما ابتدأنا به، أن ثمَّة شريحة معتبرة في صفوف "مُتَأدْلِجينَ"، بشتّى مشاربهم، ممن لا يتورّعون عن تقديم مصالحهم الشخصية على أي شيء آخر، وقراءة سريعة في خلفية عباس تنبينا بكثير عنه. هذا رجل بنى مجده السياسي، إلى حد بعيد، على ادّعاء الفضل الحصري في الإنجازات التي كان يحققها النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي مجتمعين ضمن "القائمة المشتركة" التي كانت مكونة من أربعة أحزاب عربية، إسلامية وشيوعية ويسارية، قبل أن ينشقّ عنها بـ"القائمة العربية الموحدة" مطلع هذا العام. وهو ينتمي إلى الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر الذي تشكّل بعد الانقسام الذي شهدته الحركة الإسلامية هناك، عام 1996، على أرضية الخلاف على المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، والذي أيده هذا الجناح بقيادة الراحل، الشيخ عبد الله نمر درويش، مقابل الجناح الشمالي الذي عارض ذلك، بقيادة الشيخ رائد صلاح. قد يُعذر الطرفان في خلافهما، فمسألة المشاركة في الانتخابات التشريعية الإسرائيلية من عدمها كانت ولا تزال قضية محل خلاف بين فلسطينيي الداخل، لكن المشكلة أن خطاب الجناح الجنوبي بدأ منجرفاً ومنحرفاً منذ البداية، وكأنه بلا مرساة، وها نحن نرى تداعيات ذلك في شخصيات انتهازية مثل منصور عبّاس.