الانتخابات الرئاسية المصرية... ملاحظات أساسية
تستعدّ مصر لإجراء انتخابات رئاسية جديدة، هي الخامسة من الانتخابات التعدّدية، والرابعة بعد ثورة يناير (2011). ويتزامن معها تعمّق أزمة النظام والمجتمع، بما يحيل أن يكون عنوانها الرئيسي الأزمة الشاملة، المتضمّنة أزمة السلطة والمعارضة والطبقات الشعبية. وضمن هذه الثلاثية، تتحدّد التفاعلات التي تجري، من مظاهر حراك أو تبلور تحالفاتٍ بين قوى قائمة، أو تشكّل مجموعات جديدة، بحثا عن حلول، ومعها، أيضا، تتمدّد التغيرات في الآراء والمواقف والخطاب.
تشكّل الانتخابات، بالنسبة لقطاع من الساعين إلى التغيير، فرصة لظهور بديلٍ سياسيٍّ يمثلهم، بينما تهدف السلطة إلى تنفيذ استحقاق دستوري يثبّت وضعها. وتجري الانتخابات في ظل أزمةٍ محتدمة. لذا قد تتخذ مسارات المشاركة الرسمية فيها نوافذ لمشاركة أوسع خارجها، وتساهم في فتح مساراتٍ جديدة مستقبلا، هذا بحكم سياقات الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية.
تجعل كل هذه الأسباب انتخابات ديسمبر المقبل الرئاسية مغايرةً، من حيث طبيعتها وتفاعلاتها، عما سبقها، بالمخالفة لآراء مختصين في النظم الانتخابية، يحلّلون المشهد بمنظور تقليدي، يركّز على مفاعل القوة الظاهرة، ويهمل التفاعل بين البناء السياسي القائم والأزمات المحيطة به، وبالتالي، يقدّمون مقاربة بين الانتخابات الحالية وانتخابات العام 2014، أو حتى انتخابات 2005، متجاهلين طبيعة السلطة القائمة، وسياساتها التى أضرّت قطاعات شعبية، وفئاتٍ وسطى، إلى حدود بعيدة. وينتظر هؤلاء فرصة للتعبير عن أنفسهم، ويمكن الاستدلال على ذلك من بعض التفاعلات، خصوصا محاولات جمع توكيلات لترشيح أحمد طنطاوي، وما اتسمت به هذه المحاولات بسلوكٍ يشتمل على صمودٍ وشجاعة، وحتى وإن كانت أعداد المشاركين ليست كبيرةً نسبيا، لكنها، كيفيا، تُترجم موقفا دالّا، ولا يمكن الاستهانة بهذه التحرّكات، بما تحمله من الإصرار والتحدّي، إضافة إلى شمولها جغرافيا، وتكرارها بما في ذلك محافظات الصعيد والدلتا، والتي غالبا ما يُشار إليها بضعف الفاعلية السياسة، لكنها تثبت العكس، بجانب سعي مصريين كثيرين في الخارج لاستخراج توكيلات من السفارات.
محاولة أن تكون الانتخابات جادّة وتنافسية وطريقا للتغيير، ومعها انضمّت فئات إلى المشهد السياسي تطالب بالضمانات
يؤشّر ذلك كله إلى حالة ورغبة عامة بالتغيير، تتّخذ من الانتخابات مسارا لها، وتأخذ أحيانا، ضمن مظاهرها، تجمّعاتٍ ومظاهرات ترتفع فيها هتافات ثورة يناير، وهو ما يُشعر النظام بالقلق، حيث كانت بعض الدوائر تتصوّر إمكانية توظيف رغبة طنطاوي في الترشّح لصالحها، وأن يكون مرشّحا ضمن مشهدٍ يمثل تعدّدية شكلية مطلوبة لاستكمال المشهد، لا أن يكون المرشّحون يمثلون بدائل للسلطة، تتحدّاها على مستوى الخطاب والحركة والهدف.
ولكن على عكس ما تصوّر بعضهم، هناك محاولة أن تكون الانتخابات جادّة وتنافسية وطريقا للتغيير، ومعها انضمّت فئات إلى المشهد السياسي تطالب بالضمانات، وتحاول الدفع بمرشّح مدني خارج دوائر السلطة، يعد بإقرار (واحترام) حقوق المصريين وحرّياتهم التي يقرّها الدستور، ويرفع شعارات ثورة يناير وأهدافها، وهو الخطاب الذي حظي بتأييدٍ واهتمامٍ واسعين، رغم التعتيم الإعلامي، وربما كان صدى هذا الخطاب مفاجئا لبعضهم، وقد ساهم، بما اكتسبه من تأييد شعبي ورواج، فى تغير مواقف بعض النخب، وأعلن بعضُها الاصطفاف مع طنطاوي ودعمه، على أرضية أن الانتخابات فرصة للتغيير، وليست عتبة لاستدامة الحكم، لولاية ثالثة، يُستعاد فيها قاموسٌ مكرّر، الضرورة والاستثناء، والظرف الدولي والإقليمي العاصف، الذي يوجِب تجديد الثقة، ونداء الجماهير ومبايعتها الحاكم.
وكان ممكناً أن تتّسع الحالة المؤيدة لاختيارٍ حرٍّ بين بديلين أو أكثر، لكنّ ثلاثة عوامل أساسية حدّت منها، أولاً وجود نسق سياسي مغلق، حيث تريد السلطة انتخاباتٍ بلا تنافس، وثانياً انقسام المعارضة على نفسها، وثالثاً تردّد قطاعاتٍ من النخب والمجتمع المدني، متلبسة بالإحباط، أو المراهنة على مكاسب من الوضع القائم، بجانب مناوأة بعضها طنطاوي بنزوعٍ لا يخلو من النرجسية والتعالي، حتى وإن تخندق بعضهم مدفوعا بميول وادّعاءات بأن البديل المطروح رجعي يميني أو ممثل للإخوان المسلمين أو كومبارس، بينما ليس لدى أصحاب هذا الخطاب ما يدلّ على ثورية أو تقدّمية ظاهرة يجسّدها فعل ملموس لتغير الواقع، بقدر تجنّب اتخاذ مواقف قد تضرّ مصالحهم، وتفقدهم تكيّفهم مع الوضع الحالي. لذا عمليا، هم مناوئون فكرة البدائل، ويساهم موقفهم في استمرار خلو الساحة من حراك سياسي مستقل، وهو ما يصبّ، في النهاية، في صالح السلطة المصرّة على البقاء في السياسات نفسها، ومن دون تقديم حتى تنازلاتٍ محدودة قبيل الانتخابات، كما توسيع دائرة الإفراج عن سجناء الرأي أو مراجعة الأخطاء.
أصبح مشهد الانتخاب مصدرا لاكتساب القوة، وتمثيل الصراع الاجتماعي والسياسي، وإبراز التمثيلات السياسية
وعموما، تضمّن المشهد الانتخابي جبهتين أساسيتين، السلطة التي تخطّط للبقاء، وتعتبر ذلك حتميا ومحسوما، في مواجهة تيار يريد التغيير والاختيار بين بديلين، وهذا الوضع المستجد، حتى وإن لم يستمرّ لأسباب إجرائية في ظل الانتخابات، فإنه لا يعني نفي التعبيرات المعارضة التي ظهرت خلال شهرٍ مضى، وإن احتمالات توسّعها قائمة بقوة، وبدا ذلك يهزّ رهاناتٍ كانت راسخة عمّن يسلمون بسلطة الأمر الواقع، وقدرتها على فرض الاستقرار، وبدا بعضهم ينتبه إلى التفاعلات بين السياقات الاقتصادية والاجتماعية والبناء السياسي.
كما يمكن رؤية التفاعلات الجديدة التي تتراكم، من خلال مشهد استخراج التوكيلات الشعبية للمرشّح أحمد طنطاوي، بما فيها من إصرار المواطنين على استخدام الحق الدستوري وتوظيفه "أداة" لاستعادة المواطنة، وإعلانا عن البحث عن بديلٍ للسلطة يمثلهم، هذا الإصرار لافت ومعبّر، ويعني انكسارا تدريجيا للخوف، ورغبة في المشاركة والتعبير عن رفض المسار السياسي الحالي، عبر التغيير بنهج سلمي ديمقراطي، بسيط وواضح "ستارة زرقاء وصندوق انتخاب". وغالبا ما يرفع المشاركون في الحراك، أمام الشهر العقاري، شعارات ثورة يناير، بشكل يومي، في سلوكٍ سياسيٍّ يحمل التحدّي، مدفوعا بخبراتٍ وصبر عشر سنوات مضت، تعمّقت فيها الأزمات، منتجة أوضاعا معيشية صعبة، كما لم تعد شرعية الإنجاز التي يكرّرها النظام يمكن تصديقها، ولا أسانيد حول شرعية دولة قانونٍ تتآكل في ظل نظام سلطوي، يوظّف التشريعات لاستدامة الخوف وثقافة العقاب وتكريسهما، وقتل المبادرة وأي وجود سياسي مستقل عن السلطة، إلى جانب نمط إدارة تتحكّم فيه مجموعة ضيقة، من دون فاعلية حقيقية للمؤسّسات التنفيذية والنيابية.
وإجمالاً، تحوّل المشهد إلى معضلة للسلطة، حيث تعلن حناجر من فئاتٍ عمريةٍ وطبقيةٍ مختلفة، رفضها استمرار الحكم، وتبحث عن بديلٍ، غير عابئةٍ كثيرا بآليات الضبط التي لم تتوقف سطوتها، والهادفة إلى تعطيل أي تفاعل سياسي يعلن التحدّي، كما أصبح مشهد الانتخاب مصدرا لاكتساب القوة، وتمثيل الصراع الاجتماعي والسياسي، وإبراز التمثيلات السياسية، وكشف ضمن تطوّراته المواقف للنخب والأحزاب السياسية، بما شكّل أداة للفرز الحقيقي، ومثّل اختراقاً للنمط السلطوي الذي يسعى إلى نفي التنوّع. إضافة لذك، فتحت الانتخابات أبواباً مغلقة، بما فيها أسئلة بشأن مستقبل البلاد، وسؤال البدائل المتاحة.