الاستشراق الإعلامي واحتقار الذات

08 مارس 2024
+ الخط -

يجد المتابع لما يقوله أنصار السلطة في مصر أن عديدين منهم يلجأون، في سياق تبريرهم سوء الأوضاع في البلاد، إلى كل الطرق الممكنة، حتى لو أدّى ذلك إلى إهانة الشعب بأكمله، أو التقليل من شأن البلد بأكمله، وكأن التاريخ قد بدأ منذ عشر سنوات فقط، وكأن مصر قبل ذلك التاريخ كانت صحراء جرداء، وكأن المصريين كانوا همجا لا يعرفون الحضارة.

جديد هؤلاء أخيراً مذيع شهير جدا، زعم، في إحدى حلقات برنامجه قبل أيام، إن مصر لم تشهد زراعة أو صناعة في تاريخها الممتد عبر سبعة آلاف عام! وأن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني المواطنون منها هي نتيجة إهمال هذه القطاعات.

وبغض النظر عن أن هذا الزعم، إن صحّ، يظلّ مسؤولية الحكّام الذين تعاقبوا طوال هذه السنوات، إذ لم يضعوا خططا لتحقيق الأمن الغذائي وإنشاء تجربة صناعية معتبرة، فإن هذا الزعم يظلّ مضللا إلى حد كبير، فالزراعة ركنٌ أساسيٌّ في حياة المصريين منذ قيام الحضارة على ضفاف النيل، وكانت مصر معروفةً بأنها سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية، عندما كانت تخضع لحكمها. ولا يزال ملايين المواطنين يعملون في هذا القطاع، وليس ذنبهم أن هذا المذيع يتصرّف ويتحدّث، وكأنه مستشرقٌ جاء حديثا إلى مصر ليتعرف إليها للمرة الأولى.

أما من ناحية الصناعة، فقد شهدت مصر تجارب صناعية عديدة واعدة، لم تكتمل لسبب رئيسي، هو فشل الأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم في ضمان استدامة هذه التجارب وتأمين استمرارها. وحتى وقت قريب، كانت مدن مصرية عديدة تشتهر بصناعاتٍ رائدة، مثل صناعة الأثاث في دمياط، والجلود في الإسكندرية، والغزل والنسيج في المحلّة، والحديد والصلب، فضلا عن صناعاتٍ غذائية عدّة، لكن عددا كبيرا من تلك الصناعات تعرّض لانتكاسة بسبب السياسات الحكومية، وأبرز مثال على ذلك محافظة دمياط التي لم يكن فيها عاطلون من العمل بسبب شهرتها الكبيرة في صناعة الأثاث، لكن السلطة تدخّلت بسياستها الحمقاء والكارثية وأنشأت ما تسمّى "مدينة الأثاث" التي حققت فشلا ذريعا، باعتراف المسؤولين أنفسهم، وانهارت صناعة الأثاث في المحافظة، وأغلقت أعداداً كبيرة من الورش والمصانع، وتشرّد أصحابها وعمّالها.

الزراعة ركنٌ أساسيٌّ في حياة المصريين منذ قيام الحضارة على ضفاف النيل، وكانت مصر معروفةً بأنها سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية

ولم يختلف الحال بشأن صناعة الدواجن، فقد كانت مصر على وشك تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، قبل أن تتدخّل الدولة وتتسبّب في انهيارها، نتيجة قرار حظر استيراد الأعلاف، بسبب الأزمة الاقتصادية التي تسبّبت السلطة فيها، وبالتالي، ارتفعت أسعار الدواجن بصورة جنونية غير مسبوقة على المصريين، وسط استفادة عدد محدود من أصحاب الحظوة ممن سُمح لهم باستيراد دواجن من الخارج لتحقيق أرباح طائلة على حساب الأمن الغذائي للمواطنين. أي أن النظام لم يُهمل في إنشاء صناعاتٍ جديدةٍ فحسب، بل خرّب تلك الموجودة أصلا، واكتفى بأولوياتٍ مختلة، ركز فيها على تشييد طرق وجسور ومدن جديدة لم تحقّق أي تأثير إيجابي في حياة المصريين.

جانب آخر لجأ إليه المطبّلون للسلطة، في إطار احتقارهم المصريين، تمثل في الزعم أن المواطنين لا يذهبون إلى الحفلات والفعاليات الفنية والثقافية، قائلين إنهم لم يعرفوا طريق الأوبرا إلا من خلال "الليالي السعودية المصرية" التي أقيمت أخيراً، بالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية والهيئة العامة للترفيه بالسعودية، وإن دار الأوبرا كانت خاوية على عروشها قبل إقامة هذه الليالي، حتى أن ممثلا كتب منشورا وجّه فيه الشكر لمنظمّي الفعالية، لأنهم "عرّفوا" المصريين طريق الأوبرا! والحقيقة أن حفلات دار الأوبرا تشهد إقبالا كبيرا طوال العام، حتى أن معظم هذه الفعاليات تبيع تذاكرها بالكامل. كما يقبل المصريون على جميع الفعاليات الثقافية والفنية التي تقام في أي مكان، مثل مهرجان القلعة وحفلات المؤسّسات الثقافية الخاصة، مثل ساقية الصاوي وغيرها.

دائما ما تؤكد مثل هذه التصرّفات والأقوال، من مناصري أي نظام، أن التطبيل الأعمى لا يؤدّي إلا إلى هذه النظرة الدونية للنفس وللشعب، والنظر إلى المواطنين باعتبارهم هم المسؤولون عن مشكلاتهم، وأنهم عبءٌ على النظام! وهي قصة مكرّرة في مثل هذا النوع من أنظمة الحكم.

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.