الاختيار بين الدعاية والشرعية في مصر
في أسبوع واحد، وفي حديثين منفصلين أدلى بهما، في 26 أبريل/ نيسان و2 مايو/ أيار، حرص الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على الدفاع عن مسلسل "الاختيار 3" الذي أذيع خلال شهر رمضان، وعن رواية المسلسل الأحداث التي سبقت استيلاء الجيش المصري على السلطة في يوليو/ تموز 2013، والخلاف الذي دار بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها الرواية الدقيقة لما حدث. ويعد المسلسل الثالث في سلسلة أعدّت للدفاع عن وجهة نظر النظام الحاكم تجاه أهم التحدّيات السياسية التي واجهت البلاد منذ استيلائه على الحكم.
وقد ينظر بعضهم إلى المسلسل بوصفه دعاية سياسية، يقوم بها نظام حاكم ومسيطر بغرض تحقيق مزيد من السيطرة على عقول أتباعه، وتأكيد وجهة نظره وصناعة التاريخ. ولكن تأكيدات الرئيس المصري المتكرّرة على صحة رواية المسلسل، الذي أنجز بالتعاون مع الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، أو الذراع الإعلامية والدعائية للمؤسسة العسكرية، وقسم السيسي المتكرّر على ذلك، والظروف التي تمر بها البلاد، وطبيعة النظام الحاكم نفسه، هذه كلها تثير أسئلة عديدة عن مدى حاجة الرئيس المصري لتلك الدعاية في هذا التوقيت؟ وهل هو في حاجة لما هو أكثر منها؟
في البداية، المسلسل عمل دعائي بالأساس، ويعاني من أزمة مصداقية لأسبابٍ كثيرة، في مقدمتها أنه عمل دعائي من طرف واحد وليس عملا توثيقيا محايدا، حيث يعترف المسلسل علنا بأنه بالتنسيق مع الشؤون المعنوية، ويستخدم تسريباتٍ لأحاديث مجتزأة لقادة الإخوان المسلمين وغيرهم، جرى تسجيلها بشكل سري وغير قانوني، وتمثل اذاعتها بهذا الشكل انتهاكا للقوانين والحقوق والحريات.
المعارضة المصرية لم تعد قادرة على بلورة أي تهديدٍ جاد للنظام المصري الحاكم في الفترة الحالية
كما يتناقض المسلسل في روايته مع دراسات جادّة نشرت عن تلك المرحلة، وعن أسباب (وأسلوب) انقلاب الجيش والسيسي على الرئيس محمد مرسي (رحمه الله) وتجربة التحول الديمقراطي في يوليو/ تموز 2013. فعلى سبيل المثال، يؤكد كتاب "في أيدي الجنود"، المنشور في عام 2018، لمراسل صحيفة نيويورك تايمز في القاهرة خلال سنوات الثورة المصرية، ديفيد كيرباتريك، على تعرّض الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، وقادة جبهة الإنقاذ، وفي مقدمتهم محمد البرادعي، لعملية خداع حتى أخر لحظة من السيسي الذي أخفى عن مرسي نيته الاستيلاء على السلطة في انقلاب عسكري، وأوهمه بالتفاوض بينه وبين قادة جبهة الإنقاذ. كما أقنع السيسي بعض قادة "الإنقاذ"، كالبرادعي، بأن استيلاءه على السلطة يأتي بهدف إصلاح المسار الديمقراطي، وليس تعطيل مسار التحوّل الديمقراطي نفسه. والواضح أيضا أن قوى المعارضة المصرية باتت في أضعف حالاتها، ولم تعد قادرةً على تحدّي خطاب النظام، فقد وصلت إلى مرحلةٍ غير مسبوقةٍ من الضعف والانقسام، مدفوعة بالأساس بقمع النظام وملاحقته لهم، كما أغلق كثير من منابرها السياسية والإعلامية في الداخل والخارج، ولم يعد لها صوت جماعي أو تنظيمي يُذكر، ولم يعد يتبقى لها سوى أصوات فردية أو أشباح هزيلة لقوى كانت في الماضي منظمة.
وهذا يعني أن المعارضة المصرية لم تعد قادرة على بلورة أي تهديدٍ جاد للنظام المصري الحاكم في الفترة الحالية، وأن النظام لا يواجه تهديدا يُذكر من المعارضة المسحوقة يتطلب مزيدا من الدعاية السياسية، مستخدما مسلسلا تلفزيونيا مشكوكا في مصداقيته. وهو يطرح مجدّدا السؤال عن أسباب انشغال النظام بالدفاع عن نفسه بهذه القوة في هذا التوقيت؟ هل نحن أمام محاولة لكسب بعض الشعبية في مواجهة ظروفٍ اقتصاديةٍ صعبة؟ أم أنه محاولة للبحث عما هو أكثر من ذلك؟ بصيغة أخرى، هل كان النظام سيحتاج عملا دعائيا فجّا كـ"الاختيار" لو كان يتمتع بروافد أقوى من روافد الشرعية السياسية التي تتمتع بها النظم المختلفة؟
وينبغي هنا الإشارة إلى أن كل النظم السياسية في العالم تحتاج الدعاية السياسية، وأن تراجع شعبيتها لا يعني الانتقاص من شرعيتها لو كانت معتمدةً على أسسٍ قويةٍ للشرعية السياسية، لأن الشرعية السياسية تؤدّي إلى إذعان المواطنين للنظام الحاكم، حتى ولو تراجعت شعبيته، فهي ضمان أكثر عمقا لاستقرار أي نظام سياسي. أما في حالة ضعف مصادر الشرعية السياسية نفسها، فتصبح الدعاية مصدرا ضعيفا وربما زائفا للشرعية، فما هي مصادر شرعية النظم السياسية، وإلى أي مدى يتمتع بها النظام الحاكم في مصر؟
لا تعد الشرعية التقليدية المصدر الوحيد للشرعية، فهناك مصدرٌ آخر يتعلق بالشرعيتين القانونية والدستورية
أولا: هناك شرعيات تقليدية كشرعية قادة القبائل في النظم القديمة، وهي شرعية تتكون عبر عقود أو قرون، وقائمة على انتشار أعراف وقيم بعينها تضم ولاء المحكومين لجماعات حاكمة بعينها ولو كانت غير ديمقراطية. وقد عرفت مصر تلك الشرعية خلال الحكم الملكي. وربما بات يتمتع نظام يوليو، ورؤساؤه القادمون من المؤسّسة العسكرية، ببعض تلك الشرعية بحكم اعتياد الأجيال الراهنة من المصريين على أن يحكمهم رئيس قادم من المؤسسة العسكرية يحكم بشكل شبه مطلق، فوق دستوري، وشبه فرعوني.
ولكن كتابات تشير إلى أن شرعية نظام يوليو كله باتت محل شك، وفي تراجع بسبب انتكاسات هذا النظام وتقلباته، فقد تنقل النظام بين الاشتراكية والرأسمالية بشكل تلفيقي، وعجز عن تطوير نموذج واضح للتنمية الاقتصادية والبشرية، ولم يعد له دور خارجي يتخطّى المصالح الضيقة للنظام الحاكم، كما لم يعد قادرا على شراء رضا الناس من خلال التوظيف في القطاع العام أو الإنفاق على الدعم أو حتى الإنفاق على الصحة والتعليم كما كان في الماضي. وقد أدت العوامل السابقة إلى تراجع القاعدة الشعبية للنظام بشكل مستمر.
ثانيا: لا تعد الشرعية التقليدية المصدر الوحيد للشرعية، فهناك مصدرٌ آخر يتعلق بالشرعيتين القانونية والدستورية، وهي شرعية تنعم بها بالأساس النظم الديمقراطية أو شبه الديمقراطية التي تأتي إلى الحكم وتغادره بشكل قانوني ودستوري واضح، وفي ظل ثقافة تسيطر عليها المعايير القانونية والدستورية. والواضح أن تلك الشرعية ضعيفة تقليديا في بلد كمصر، فالانتخابات والدساتير والمؤسسات شكلية بالأساس، وخاضعةٌ لسيطرة المؤسسات الأمنية والرئيس القادم منها، وغالبية الشعب عازفة عن المشاركة في العملية السياسية لوعيهم بطبيعتها الشكلية، ولم يتردّد السيسي نفسه في تأكيد رفضه للتركيز على قضية الحقوق السياسية والمطالب بالديمقراطية والتأكيد، في المقابل، على ضرورة التركيز على قضية الاستقرار والتنمية الاقتصادية.
بعد تحقيق قدرٍ من الاستقرار الأمني والسياسي لم يعد النظام قادرا على استخدام قضية الأمن مصدرا لشرعيته، وبات عليه البحث عن مصادر أخرى
ثالثا: نأتي للمصدر الثالث للشرعية، وربما الأهم بالنسبة للنظام المصري الحالي، وهو القائم على الإنجاز، فالنظم التي تفتقر لأساس تقليدي قوي أو لمصادر قانونية ودستورية، تكون مطالبة بصناعة شرعية خاصة بها، تعتمد بالأساس على قدرتها على الإنجاز وتلبية متطلبات الشعب الأساسية. وهنا نتذكّر أهم وعود النظام الحالي، والتي تركزت بالأساس على قضيتي الاستقرار والتنمية، حيث جاء النظام في فترة عانت البلاد فيها من عدم الاستقرار السياسي بعد ثورة يناير ومواجهات عنيفة بين النظام وعدد من معارضيه، وبعض الجماعات المسلحة في سيناء وصحراء مصر الغربية، وفي ظل انتشار الحروب الأهلية بالمنطقة، لذا حذر النظام دوما من خطورة أن تواجه مصر مصير "سورية والعراق".
وبعد مرور حوالي تسع سنوات على تولي النظام مقاليد الحكم، استطاع القضاء على معظم مصادر عدم الاستقرار باستخدام استراتيجيات عسكرية مكلفة، وفي غياب حلول سياسية واضحة، مما أدّى إلى وقوع 3277 قتيلا و12280 مصابا إصابات مقعدة عن العمل في أوساط قوات الأمن المصرية نفسها كما أعلن السيسي في خطاب 26 أبريل. هذا بالإضافة إلى عدد القتلى في أوساط الجماعات المسلحة، وعدد الضحايا من المعارضين السلميين والمواطنين الأبرياء خلال تلك المواجهات. وقد تمثل التكلفة العالية لتلك العمليات مصدر قلق مستمر للنظام الحاكم داخل المؤسسات الأمنية نفسها، وتضطرّه دوما لتبريرها في ظل الأعداد الكبيرة نسبيا لعدد الضحايا وسط تلك القوات، وهي أعداد كان يمكن التقليل منها لو تبنّى النظام استراتيجية سياسية أقلّ تركيزا على القمع والمواجهة العسكرية.
وبمرور الوقت، وبعد تحقيق قدرٍ من الاستقرار الأمني والسياسي لم يعد النظام قادرا على استخدام قضية الأمن مصدرا لشرعيته، وبات عليه البحث عن مصادر أخرى، وفي مقدمتها الإنجاز الاقتصادي، وإن كان من شأن عودة الهجمات الدموية على قوات الجيش المصري في سيناء في السابع من مايو/ أيار أن تعيد التذكير بملف الأمن والاستقرار مصدرا أساسيا لشرعية النظام.
وهنا نأتي إلى التحدّي الأكبر أمام النظام في الوقت الحالي، وهو صعوبة تحقيق إنجاز اقتصادي يوفر له مصدرا ممتدّا للشرعية، فبعد تحقيق الاستقرار الأمني وتراجع خطر "الإرهاب" بات النظام المصري، مطالبا أكثر من أي وقت مضى بتوفير مصادر جديدة للشرعية، وفي مقدمتها الإنجاز الاقتصادي، فهو السبب الرئيسي لانتفاضة المصريين في يناير، ولعدم صبرهم عليها، وربما لدعم بعضهم لانقلاب يوليو 2013، ولتحملهم الأعباء الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة التي تعرّضوا لها منذ ذلك الحين، وخصوصا منذ تبني السيسي سياسات الإصلاح الاقتصادي التي فرضها صندوق النقد الدولي منذ نهاية عام 2016، والتي أدّت إلى نزول حوالي خمسة ملايين مواطن مصري تحت خط الفقر خلال عامين أو ثلاثة بعد تضاعف سعر الدولار أمام الجنية وتطبيق إصلاحات الصندوق.
نجح النظام المصري، منذ توليه الحكم، في مراكمة مختلف أدوات القمع، وفي استخدامها بشكل واسع وربما غير مسبوق
وبسبب عدم امتلاك النظام المصري لاستراتيجية ناجحة في علاج مشكلات الاقتصاد المصري، والأزمات التي تعرّض لها الاقتصاد العالمي بفعل أزمتي كورونا وحرب أوكرانيا، اضطرّت الحكومة المصرية لتخفيض سعر الجنيه مرة أخرى أمام الدولار في مارس/ آذار 2022، منذرة بفترة أخرى من المعاناة الاقتصادية التي سيعاني منها المواطن المصري، وهي فترة مرشّحة للامتداد والتعقد، بسبب تراكم الديون خلال السنوات الخمس الأخيرة، حيث اقترض النظام المصري حوالي مائتي مليار دولار من الداخل والخارج بمعدل 40 مليار دولار من القروض سنويا.
رابعا: مصدر أساسي للشرعية يتعلق بالأمر الواقع، أو بقدرة النظام على فرض نفسه بالقوة من خلال امتلاكه أدوات القمع المختلفة، وهي أدواتٌ لا يعاني النظام المصري من ندرتها، حيث نجح، منذ توليه الحكم، في مراكمة مختلف أدوات القمع، وفي استخدامها بشكل واسع وربما غير مسبوق.
وهذا يعني أن النظام المصري يفتقر لروافد الشرعية القانونية والدستورية، وشرعيته التقليدية في تراجع، وحرمته سياساته الاقتصادية الخاطئة من أهم مصادر الشرعية المتجدّدة والمتعلقة بالإنجاز، ولم يعد يتبقى له سوى بقايا الشرعية التقليدية التي يتمتع بها نظام يوليو 1952، وخوف المصريين من "الإرهاب"، وشرعية القمع والأمر الراهن، وأن المعادلة السابقة قد تدفع النظام إلى المحاولة المستمرّة لتحسين صورته، وربما بناء بعض الشرعية عن طريق بعض الأعمال الدعائية أو صناعة صورة إعلامية قائمة على الإبهار والكاريزما والإنجازات المتخيلة أو فتح حوار محدود مع معارضيه، وهي مصادر بطبيعتها محدودة وغير كافية، ويعتريها كثير من القصور والنقص. وهو ما قد يفسّر جزئيا الأهمية الكبيرة التي يمنحها لتلك الأعمال الدعائية المستمرّة بما في ذلك مسلسل "الاختيار 3". وقد يكون الحل الأمثل للنظام هو البحث في سبل أكثر جدّية لبناء شرعيته، بدلا من الانشغال بمسلسلات دعائية لن تحقق له الكثير.