الإغاثة هنا... والمجاعة أيضاًً
بعد أشهر من الشدّ والجذب، تمكّنت قوافلُ الإمداد الغذائي من عبور الحدود التشادية السودانية حاملةً المعوناتِ للمحتاجين.
في فبراير/ شباط الماضي، أعلن قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في خطاب عامّ بمدينة الدبة، شمال السودان، أنّه لن يسمح بمرور الإغاثة من المنظّمات الدولية إلى أماكن سيطرة مليشيا الدعم السريع إلا بعد "وقف هذه الحرب ودحر هؤلاء المتمرّدين المجرمين من بيوت المواطنين والمؤسّسات الحكومية والخدمية، ومن كلّ المدن التي قاموا بنهبها واحتلالها في نيالا والجنينة ومدني والخرطوم وإرجاع كلّ المنهوبات التي سرقوها"، حسب تصريحه.
لم يمرّ رفْضُ دخول الإغاثة إلى المواطنين المدنيين في مناطق سيطرة قوّات الدعم السريع من دون جدل كبير. فحتى داخل البلد، الذي تمزّقه الحرب الأهلية، وجدَ موقفُ الجيش تأييداً من بعضٍ، ورفضاً من بعض آخر. لكنّ ذلك كلّه انتهى بمكالمةٍ بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وقائد الجيش السوداني. تمّت الموافقة بعدها على دخول قوافلَ المعوناتِ المُكدَّسةِ في الحدود لستّة أشهر.
لم ترض موافقة قائد الجيش على دخول قوافلَ المساعداتِ قوّات الدعم السريع، فصرّح ناطقها الرسمي بأنّ المعبر الحدودي تحت سيطرة قوّاته، وأنّ قائد الجيش يتكسَّب سياسياً بهذا القرار. الغضب/ الغيرة التي أصابت المتحدّث باسم المليشيا سببها أنّ الترحيب الدولي بموافقة البرهان بدا مكافأةً لعدم الحضور إلى مفاوضات جنيف. وقد كانت قوات الدعم السريع قد بنت آمالاً عريضةً على تعنّت الجيش، لكن الموافقةَ التي أتت متأخّرةً أظهرت أنّ الجيش ما زال يمتلك بعض المرونة.
عبرت مساء الثلاثاء الماضي أوّل شحنةٍ من الإغاثة المُقدّمة من برنامج الأغذية العالمي، تحمل الذرة والبقول والزيت والأرز إلى 13 ألف شخص مُعرّضين لخطر المجاعة بغرب دارفور. وبحسب تصريحات البرنامج، فإنّ إمدادات غذائية وعلاجية لنحو خمسمائة ألف شخص جاهزةٌ للتحرّك بسرعة عبر الطريق الذي أعيد فتحه أخيراً.
كان يمكن إنقاذ الذين ماتوا جوعاً في الأشهر الستّة الماضية كلّهم لو دخلت القوافل المحجوزة على الحدود في صراع الاعتراف بالسلطة. وما زالت شاحنات الإمدادات تواجه خطرَ الاعتداء عليها، إذا لم تتوقّف العمليات العسكرية في المنطقة.
قالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي سيندي ماكين: "إنّ إعادةَ فتح المعبر أمر بالغ الأهمية للجهود المبذولة لمنع انتشار المجاعة في مختلف أنحاء السودان، ولا بدّ أن يظلّ المعبر قيد الاستخدام لتوصيل المساعدات المُنقِذة للحياة إلى ملايين الأشخاص المحتاجين بشدّة". وأضافت: "نحن في حاجة ماسَّة للوصول إلى كلّ ركن من أركان السودان بالمساعدات الغذائية، وهذا يتطلّب فتح الممرات الإنسانية وجميع المعابر الحدودية حتّى تتمكن وكالات الإغاثة من جلب الإمدادات كلّ يوم. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتجنّب المجاعة على نطاق واسع".
لكن هذا تحديداً يبدو أنه ما تخشاه بورتسودان. فمن ناحية، لا يثق الجيش السوداني في عمليات الإغاثة الدولية، وينظر إليها بريبة، كما أنّه لا يستطيع منح إذنٍ بلا قيودٍ لأيّ وكالة إغاثة بالدخول من المعابر كافّة، ولا يمكن توقّع ذلك منه. ومن ناحية أخرى، هو لا يُصدّق ما يقال عن المجاعة (!) فعلى عكس التقارير الدولية التي تُحذّر من المجاعة المقبلة، تشكّك الحكومة العسكرية في أنّ نصف عدد سكان السودان (25 مليوناً)، يواجهون الجوع الحاد. يُؤكّد وزير الخارجية السوداني في حسم: "السودان لا يواجه مجاعةً وشيكةً". أمّا وزير الزراعة فذكر أنّ عددَ من يعانون جوعاً كارثياً هم 755 ألف شخص، وهذا العدد "ليس كبيراً مُقارَنة بعدد سكان السودان"(!)
تشكو المنظّمات الدولية من ضعف الاستجابة للوضع في السودان الذي وصف بالكارثة الإنسانية الأكبر حالياً في العالم، وتتوقّع أنّ الكارثة عندما تحلّ فلن يكون هناك وقتٌ للتدخّل الفعّال بعدها، فبعض تقديرات الخبراء تتوقّع وفاةَ الملايين جوعاً داخل السودان في نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل، لكن كيف يستجيب العالم وصاحب الشأن ينكر(!) نحن إذاً أمامَ كارثةٍ لا يبدو أنّ أحداً يهتمّ بها كثيراً.
ومع دخول قوافل الإغاثة، ليس من المتوقّع أن تعبر الإقليم بسلام من دون أن تهاجمها مليشيا الدعم السريع، التي يعتبر مقاتلوها كلّ ذي قيمة غنيمةً مباحةً. لكن لا يملك العالم إلّا التجربةَ مرّة بعد مرّة، في محاولة لإنقاذ أيّ روح يمكن إنقاذها.