الأسد من دون سيّدتي القصر
لم تمكث مستشارة بشّار الأسد الخاصّة، لونا الشبل، سوى أيامٍ معدودة في قسم العناية الفائقة في مستشفى الشامي بدمشق، قبل أن يُعلِن النظام السوري وفاتها هناك، إذ إنّها لم تَنْجُ من (مزاعمِ؟) النزيف الدماغي الحاد الذي افترسها، بعد حادث السيارة الذي أخذها إلى ميتة ملتوية ذات ألغاز وتكهّناتٍ كثيرة.
والشبل جسّدت نموذجاً مثاليّاً مراوغاً للاغتناء السريع من خلال الطَوَفَانِ بملابس السلطة والنفوذ، فهي انتقت بعناية وفراسة أقرب درجٍ كهربائي صادفته قدماها، لينقلها بسرعة وذكاءٍ من القاع، إذ عملت مُذيعة في التلفزيون السوري، إلى القمّة، حيث جعلها بشّار الأسد مستشارته الخاصّة، وهي على أي حال لم تكن ابنة العائلة الثريّة المُزيّنة بالنفوذ والقوّة، وإنّما ربّت ثروتها تلك خلال 13 عاماً، وهي سنوات الثورة السورية ضدّ بشّار الأسد، الذي استقبل الشبل واحتضنها في الدائرة الصغيرة المُقرّبة إلى قلبه وعقله منذ عام 2011، حين تركت العمل في قناة الجزيرة، مُنحازة إلى النظام السوري وزعيمه، معادية الشعب السوري الثائر على الأسد، أو الرافض بصمتٍ حُكْمه.
لم يكن يعني لونا الشبل أن تَجني شعبية لدى طائفتها، حتّى إنّها دُفِنتْ في مقبرة في شارع بغداد وسط دمشق، وليس في مقبرة عائلتها في السويداء
وبهذا، ليست لونا الشبل حالة دخيلة على نظام دمشق، فميلها إلى التسلّق، وإلى التحرّر من إرث قانون الجاذبية الأرضية، جعلها ابنة هذا النوع من الأنظمة الاستبدادية، المُلوّثة بالدوغمائيّة والفساد من كلّ جانب، لذلك، سرعان ما أَتقَنت هذه الصبيّة المَرِحَة، المندفعة، ذات العينَين الملوَّنتَين اكتشاف الدروب والدهاليز الخفيّة داخل القصر الجمهوري، والتي أتاحت لها جَني الثراء، بل وتوسيع أبوابه، بالرغم من مسيرة حياتها القصيرة نسبيّاً (ماتت عن 49 عاماً).
لم تكن الشبل إذاً تلك الفتاة الدرزيّة النمطيّة التي تحنُّ إلى وِثَاق القبيلة، ومدلولات العُرف الاجتماعي، فتزوّجت مرَّتَين من خارج مِلَّتها، ولم تَزُرْ السويداءَ مسقطَ رأسها منذ غادرت العمل في التلفزيون السوري إلى الدوحة للعمل في قناة الجزيرة، ثمَّ إنّها، وبين تعيينها مديرة للمكتب الإعلامي في القصر الجمهوري عام 2011، ثم مستشارة خاصّة لبشّار الأسد عام 2020، لم تُضمّن في سيرتها الذاتيّة سوى تدوين مواقف وتصريحات كثيرة ذات تنظير مُتبجّح ومتعالٍ على الناس، إذ لطاما كانت تطالب المجتمع بـ"الصمود" والمرابطة على تخوم الجوع والفواجع والفاقة، بينما كانت تَظهَر، على غرار أسماء الأسد، مرتدية ملابسَ وساعاتٍ من ماركات عالمية غالية.
وبذلك تكون الشبل قد تقمّصت شخصية بعيدة عن الإحالات الطائفيّة والإثنيّة، ولطالما أرادت أن تراوغَ، وتقول لنا إنّها شخصية هزمت قيود الطائفة والمكان، وربّما لم يكن يعنيها بشيء أن تَجني شعبية لدى طائفتها في الجنوب السوري، فكانت تميل إلى تقريع الشباب الدروز على انكفائهم عن تأدية خدمة العلم العسكرية، أو امتناعهم عن الالتحاق بقوات الاحتياط لدى الجيش، الأمر الذي جعلها مكروهة في نطاق واسع داخل المجتمع الدرزي المُنغلِق، حتّى إنّها دُفِنتْ في مقبرة في شارع بغداد وسط دمشق، وليس في مقبرة عائلتها في السويداء، خلافاً لأعراف الدفن السائدة لدى الدروز، فوالدها العقيد المتقاعد عادل الشبل ماتَ غاضباً عليها بسبب خروجها عن العرف الدرزي في ما يخصّ الزواج من خارج الطائفة.
وخلال سنوات حياتها القصيرة، وسنوات ثرائها وسلطتها الأقصر، حافظت المستشارة الخاصّة ببشّار الأسد على مسافة متعالية فضّلت أن تفصلها عن الشأن العام في سورية، في حين كان التصاقها بالنظام الحاكم وزعيمه التصاقاً حميماً جدّاً، إلى درجة أنّها حملت لقب "سيّدة القصر الثانية"، وهذا ما طوّقها بإحساس مبالغٍ فيه من الأهمية، ساهم بطرد التواضع والتعقّل عن سلوكها الواعي ولغة لسانها المنطوقة، وجعلها أكثر انغماساً بتحصيل المنفعة من منصبها، مقارنة بأي شيء آخر. ولعلّنا نتذكر كيف كانت تمضغ العلكة باستهتار شديد، وتضحك، وهي جالسة خلف وزير خارجية النظام السابق، وليد المعلّم، أثناء مؤتمر "جنيف 2" في عام 2014، وربّما كانت في تلك اللحظات، أو في لحظاتٍ غيرها تَهمِس لنفسها بأنّ جورج بيردو مُحقٌّ للغاية في قوله إنّ السلطة السياسية قوّة في خدمة فكرة. ومن المُرجّح أن تكون فكرة المقايضة بصورتها البراغماتيّة الضيّقة قد استحوذت على مزاج سيّدة القصر الثانية، إذ أرادت أن تقايض هجاءها الثورة السورية ضدّ بشّار الأسد عام 2011، وولاءها الأعمى لطاغية دمشق، بمنصبٍ مرموق تُزيّنه حساباتٌ بنكيّة، واستثماراتٍ عديدة، كان من بينها مطعم في دمشق، متخصّص بتقديم الطعام الروسي، افتتحته الشبل في يونيو/ حزيران عام 2022، ومن خلاله أرادت أن تتحصّن بالنفوذ الروسي في سورية، وأن تضمن إمدادها بمزيدٍ من السلطة، وهي التي شملتها عقوبات الخزانة الأميركية عام 2020 حين طاولت، بالإضافة إليها، شخصيات رفيعة في النظام السوري.
على بشّار الأسد أن يتقبَّل قصره بارداً هكذا، بلا سيّدتيه، وبلا خيالات كافية لتُزيح عنه عبء الاتهامات الإيرانيّة المتواصلة له ولنظامه بالتخابر مع إسرائيل
وأخيراً، خرجت لونا الشبل من المشهد البصري المنظور في سورية، لتركب سُفنَ النسيان وتمضي. وقبل إعلان وفاتها، كانت التكهّنات تجتمع حول أطراف سريرها في مستشفى الشامي بدمشق، أو تطارد صورة سيارة "بي أم" قديمة الطراز، قيل إن سيّدة القصر الثانية كانت تركبها لحظة الحادث، وتلك تكهّناتٌ يصعب اقتلاعها من منبتها الحائر، المليء بالشكّ والاستغراب، فبعض تلك التكهّنات قال إنّ الحادث مُدبَّرٌ، وتكهّنات أخرى قالت إنّ تصفية مستشارة بشّار الخاصّة وقعت قبل الحادثة بكثير، وعلى أيدي استخبارات الحرس الثوري الإيراني في دمشق أثناء التحقيق معها، وما حادث السيارة هنا إلّا مُنتَجٌ بصري مُفتعَلٌ دراميّاً، جرى بيعه للرأي العام لمنع تسويق موتها الحقيقي داخل أقبية التحقيق الخاصّة، فهي المُتّهمة إيرانيّاً بإدارة شبكة القصر الجمهوري للتخابر مع إسرائيل، ومثل هذه التكهّنات تستقوي أصلاً بإبعاد كلّ من الشبل وزوجها عمّار ساعاتي عن عضويتهما في اللجنة المركزية لحزب البعث، بالإضافة إلى توقيف شقيق لونا الشبل العميد ملهم الشبل بتهمة التخابر الخارجي.
شهرٌ واحد فقط رتّب رحيل سيّدتي القصر الرئاسي في سورية، الأولى أسماء الأسد، حين انتشر السرطان في دمها (هكذا أعلنوا)، فهرعت تعتذر قاصدة العلاج في الخارج، حينها أطلّت علينا من خلال فيديو قصير ظهرت فيه أميرة باسمة، لا مريضة يحاصرها الموت في دمها، والثانية لونا الشبل، المستشارة الخاصّة لبشّار الأسد، التي كانت جنازتها متواضعة للغاية بلا حضورٍ رسمي أو شعبي، وعلى بشّار الأسد أن يتقبَّل قصره بارداً هكذا، بلا سيّدتيه، وبلا خيالات كافية لتُزيح عنه عبء الاتهامات الإيرانيّة المتواصلة له ولنظامه بالتخابر مع إسرائيل، أو لتُزيّن له باللذّة ليلَهُ الطويل والمُرعب في دمشق.