الأسد من حرق البلد إلى تدمير الدولة

04 سبتمبر 2023
+ الخط -

أخلص نظام الأسد ومليشياته الإجرامية إلى الشعار الذي رفعوه في بداية موجة الشعب السوري الثورية الأولى في عام 2011، "الأسد أو نحرق البلد"، بل استعان نظام الأسد بقوىً خارجيةٍ داعمةٍ لضمان تحقيق شعاره الفاشي، أهمّها روسيا وإيران والمليشيات الطائفية، وفي مقدمها حزب الله اللبناني.
لكن؛ لم يجل في بال الأسد أنّ حرق سورية سوف ينقلب عليه وعلى نظامه وزمرته؛ عائلته وكبار قادة الجيش والأمن، إذ كان ثمن حرقها باهظًا جدًا، أفقده جزءًا كبيرًا من مصادر النهب والسرقة التي اعتاد هو وزمرته على تقاسمها سرًا، من ثرواتها النفطية، إلى تهريب الآثار، مرورًا بالتهريب والإتاوات المفروضة على التّجار والمستثمرين، إذ اعتادت زمرة الأسد على إجبار المستثمرين؛ داخليين وخارجيين، على مشاركتهم في استثماراتهم قسرًا، ومن دون أيّ مساهمةٍ ماليةٍ منهم، على اعتبارها شرطًا رئيسيًا لمنح أيّ مشروعٍ استثماري رخصة العمل داخل سورية، وهو ما كان يمثّل مصدر دخلٍ؛ غير شرعيٍ طبعًا، مضمونًا وثابتًا وكبيرًا.
بناءً عليه؛ خسر الأسد وزمرته ذلك كله، نتيجة إصرارهم على حرق سورية، وتشريد شعبها قسرًا، الأمر الذي أدّى إلى هروب معظم رؤوس الأموال، وإغلاق معظم الاستثمارات فيها، فضلًا عن سيطرة الولايات المتّحدة على القسم الأكبر من ثروات سورية النفطية، عبر حليفها الأبرز قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أو الإدارة الذاتية في الشمال السوري.
إذًا، فقد الأسد وزمرته سيطرتهم على مصادر النهب المهمّة، لذا بحثوا عن مصادر جديدةٍ تناسب مرحلة حرق سورية، فلم يجدوا أمامهم سوى سرقة المساعدات الإنسانية، والمتاجرة فيها، وفرض إتاواتٍ على حركة السلع، خصوصًا المتنقلة بين مناطق سيطرة الأسد والمناطق الخارجة عن سيطرته، إلى جانب سرقة المناطق التي يستعيد جيش الأسد وأجهزته الأمنية السيطرة عليها، مثل سرقة الأثاث، وآلات المصانع، وخطوط الكهرباء، بعد حرقها للاستفادة من مادة النحاس، إلى جانب سرقة قضبان الحديد المستخدمة في البناء، وألواح الألمنيوم المستخدمة في خزائن المطابخ وسواها. بمعنى آخر، نهبت عصابات الأسد كلّ شيءٍ يقع بين يديها.

لم يتردّد الأسد وزمرته في الشروع في صناعة المخدّرات وتجارتها، خصوصاً الكبتاغون، فهي مصدر ربحٍ مضمونٍ وكبيرٍ، ولا تحتاج إلى بنيةٍ تحتيةٍ

رغم كلّ هذا النهب، كان؛ وما زال، أقلّ بكثيرٍ من حجم النهب السابق، قبل اندلاع ثورة السوريين، بل مَثّلَ هذا النهب جرعات تخديرٍ مؤقتةٍ لقبضة الأسد الضاربة فقط، أيّ لعناصر قواته الأمنية والعسكرية الأساسية، إلى جانب بعض المليشيات التابعة لزمرته، في حين افتقدت زمرته الصلبة مصدرا يعيد لها مراكمة الأموال المنهوبة، خصوصًا بعد تراجع حدّة المعارك العسكرية، وعدد الحواجز العسكرية، وتقلص حجم التبادل التجاري بين مناطق سيطرة الأسد وسواها من المناطق السورية. هنا ظنّ بعض زمرة الأسد أنّ الفرج قادمٌ لا محال، من خلال نهب أموال إعادة إعمار ما دمّرته الحرب، بدعمٍ روسيٍ وربّما إيرانيٍ، ولم لا خليجيٍ أيضًا، لكن لم تسر الرياح كما تشتهي سفن الأسد، فلا أحد مهتما بإعادة إعمار بلدٍ محروقٍ ومدمّرٍ، وغير مستقرٍ، ومقسّمٍ، وفاقدٍ معظم كتلته الاجتماعية، بين لجوءٍ وهجرةٍ وهروبٍ من عصابة الأسد، فضلاً عن غياب الاستقرار الإقليمي والدولي، الذي يهدّد بعودة حدّة المعارك داخل سورية، من دون سابق إنذارٍ.
لذا لم يتردّد الأسد وزمرته في الشروع في إنتاج المخدّرات وتجارتها، خصوصًا الكبتاغون، فهي مصدر ربحٍ مضمونٍ وكبيرٍ، ولا تحتاج إلى بنيةٍ تحتيةٍ، ويدها العاملة موجودةٌ أصلاً، من عناصر مليشيات زمرته، التي تضخّمت بعد عام 2011، من أجل حرق سورية وتشريد شعبها قسرًا. بذلك حوّل نظام الأسد سورية إلى إمبراطوريةٍ للكبتاغون، تحترف صناعة المخدّرات وتجارتها، لكنه واجه، في هذه الأثناء، تصاعد أصوات السوريين داخل مناطق سيطرته الذين ضاقوا ذرعًا من ضيق الحال، وصعوبة المعيشة، خصوصًا من حاضنته الاجتماعية والسياسية الذين آمنوا سابقًا بخطاب نظامه الدعائي، الممجّد دور نظام الأسد اجتماعيًا وسياسيًا، على الصعيدين الداخلي والخارجي. لكنهم اليوم وفي ظلّ تصاعد وتيرة ضربات الاحتلال الصهيوني، وكثافة صواريخه، وفداحة آثارها المدمّرة نفسيًا وماديًا، فضلاً عن فداحة الأثمان المدفوعة للقوى الخارجية الداعمة للأسد، وتحديدًا لكلٍّ من روسيا وإيران، اللتين عاثتا فسادًا وتخريبًا بسورية كلّها، قد فقدوا إيمانهم بخطاب الأسد وإعلاميه.
وجد نظام الأسد نفسه في مأزقٍ داخليٍ جديدٍ، لذا وجّه آلته الإعلامية صوب الردّ على تلك الأصوات المتهكّمة، عبر تشديدها التأكيد على دور نظامه وفداحة المؤامرة الخارجية، وصعوبة المرحلة، لكن تلك الدعاية لم تجد هذه المرّة آذانًا صاغيةً لها، بل تراجع مستوى أداء آلة النظام الإعلامية كثيرًا، نتيجة معاناة قسمٍ كبيرٍ من كوادرها من الأزمات نفسها التي تحدّث عنها السوريون داخل مناطق سيطرة الأسد، هنا قرّر الأسد استكمال ما بدأه قبل اندلاع الثورة، وهو تدمير الدولة السورية، وتغيير وظيفتها الاجتماعية كلّيًا، مستندًا إلى سطوة أجهزته الأمنية والعسكرية التي تضخمت كثيرًا نتيجة إجرامها في مواجهة ثورة السوريين منذ عام 2011.

أتم النظام القسم الأكبر من إلغاء دور الدولة الاقتصادي، ومن المنتظر استكمالها لاحقًا، في حال بقائه في الحكم

سار نظام الأسد في المرحلة التي سبقت اندلاع الثورة في مسار لبرلة الاقتصادي السوري، التي روّجها نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية في حينها؛ عبد الله الدردري، الذي جعلت منه آلة النظام الدعائية كبش فداءٍ بعد اندلاع الثورة، معتبرةً سياساته الاقتصادية والاجتماعية الساعية إلى إلغاء دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، مثل خصصه التعليم والصحة والقطاعات الحيوية الكهربائية والمائية وربّما قطاع الصرف الصحي إلى جانب تحرير السوق وفق آلياتٍ تخدم مصالح الأسد وزمرته، من أهمّ أسباب اندلاع الثورة، أو المؤامرة على سورية وفق خطاب النظام وإعلامه، وهو ما كان بمثابة إقرارٍ آنيٍ غير مباشرٍ؛ لم يدُم سوى بضعة أشهر، بالثورة السورية وجوهرها الاقتصادي والاجتماعي.
كان هدف إعلام الأسد من ذلك إرضاء حاضنة النظام الاجتماعية، وضمان ولائها من خلال بثّ وعودٍ بإلغاء سياسات الدردري ونهجه والحفاظ على دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، واعتبار سياسات الدردري بمثابة ثغرةٍ خطيرةٍ تسرّبت منها خيوط المؤامرة الأميركية على الأسد وسورية. ثم مضت الأيّام إلى أن زار الدردري سورية في عام 2012، بصفته مديرًا لإدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، واستقبله النظام حينها بحفاوةٍ منقطعة النظير، وكأنه أحدّ أهمّ عناصره، متناسين حملتهم الإعلامية التي حمّلته مسؤولية الأزمة السورية!
نلحظ اليوم عودة نظام الأسد إلى تدمير دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، بوتيرةٍ متسارعةٍ تخدم مصالحه الضيقة، إذ ألغى النظام في منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي شرط استيراد جملةٍ من السلع عبر منصّة تمويل الاستيراد، التي كان يعدّها إعلام النظام أداةً فعالةً في ضبط سعر الليرة السورية أولاً، وفي ضبط أسعار السلع الاستهلاكية ثانيًا. كما أعلن النظام، أخيرا، عن زيادة رواتب موظفي الدولة مترافقة مع تحرير سعر المشتقات النفطية، البنزين والمازوت، الأمر الذي أفضى إلى تضخّم الأسعار كثيرًا. بهذه القرارات، يكون النظام قد أتم القسم الأكبر من إلغاء دور الدولة الاقتصادي، ومن المنتظر استكمالها لاحقًا، في حال بقائه في الحكم.

ثمن مواجهة الأسد والمخطّطات الدولية والإقليمية باهظٌ بالضرورة، على الرغم من الإنهاك الذي طاول نظام الأسد وزمرته

تحوّل نظام الأسد في نهاية عام 2021 إلى إمبراطورية للكبتاغون قد يتطلب الإسراع في إلغاء الدولة ومؤسساتها وتدميرهما، وخصوصًا دورها الاقتصادي والاجتماعي، لتحرير النظام من أيّة مسؤوليةٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ تجاه السوريين في مناطق سيطرته، بعد تحرّره من المسؤولية عن قسمٍ كبيرٍ منهم، حين أعلن رئيسه عن سعادته بلجوء السوريين وهجرتهم لتحويل سورية إلى وطنٍ متجانسٍ!
الآن؛ وفي ظلّ مضي إمبراطورية الكبتاغون الأسدية في إلغاء الدولة ومؤسّساتها الاقتصادية والاجتماعية، باتت أمام كلّ السوريين ثلاثة خياراتٍ لا غير، إما الركون إلى الانقسامات السياسية والطائفية السابقة، والتنكّر للأصوات الداخلية الغاضبة والمعارضة والثائرة اليوم، أو العمل المشترك على إنضاج ظروف الموجة الثورية الثانية، بعيدًا عن أيّ تدخّلٍ خارجيٍ، أو الاستسلام الكامل لخطط الأسد والنظامين الإقليمي والدولي. مع العلم أنّ ثمن مواجهة الأسد والمخطّطات الدولية والإقليمية باهظٌ بالضرورة، على الرغم من الإنهاك الذي طاول نظام الأسد وزمرته، ومنظومته الأمنية، وداعميه الإقليميين والدوليين، ومعظم القوى الإقليمية. وعلى الرغم من التخبّط والفوضى على المستوى الدولي، الذي باتت تبعاته أولويّة معظم الدول. فالأسد وعصاباته الإجرامية سوف يدافعون بشراسة عن إمبراطوريتهم المخدّرة، فهي مصدر نهبهم الوحيد اليوم، وهنا علينا التأكيد على أنّ ثمن مواجهة هذه الإمبراطورية الباهظ أقلّ بكثيرٍ من ثمن الاستسلام والخنوع لها، وفق تجارب إقليميةٍ وتاريخيةٍ عديدةٍ، ووفق مصير سورية الراهن، الناتج عن تخلّي بعضهم عن دوره في إنضاج ظروف الموجة الثورية الأولى، إما عبر توسّم التدخّل الخارجي والسعي إليه، أو عبر الهرب من ثورة الشعب السوري واستحقاقاتها.