الأردن على صفيحٍ ملتهب
مشاهد فيديو لمتظاهرين ومتظاهرات يشتبكون لفظياً مع أفراد الأمن الأردني، تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، وأخرى لهتافاتٍ تلمز موقف الأردن الرسمي من الحرب على غزّة، كما أخبارٌ عن اعتقالات ناشطين وصحافيين، تترافق مع تزايد زخم التظاهرات المؤيّدة غزّة، في عمّان ومدن أخرى، وتُظهر حالةَ الاصطفاف في الشارع الأردني. ذلك كلّه، يُبْرِزُ للعيان أجواء من التوتر تقدّم إشاراتٍ مقلقة في المجتمع الأردني، ولا يمكن قراءته بمعزلٍ عن التحوّلات التي فرضها هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر، وما تبعته من حربٍ وحشيةٍ إسرائيلية، بأصنافها كافّة، من قصف، وتدمير، وتجويع، واجتثاث.
شهد الأردن مشاعر تضامن عالية مستحقّة في بداية الحرب، وكان زائر عمّان والمدن الأخرى يلاحظ كمّ المشاعر تلك في حملات مقاطعة أي بضائع ترتبط بإسرائيل، والحرص على التعبير عن التعاطف والتضامن مع القطاع وأهله، في تظاهراتٍ دوريّة، ولم يسمح الاحتقان لأي صوت بأن يعلو على صوت "المقاومة"، وانتشرت صور الناطق باسم كتائب عز الدين القسام، أبو عبيدة، وعباراته، من قبيل "النقطة صفر"، "وإنه لجهاد نصرٍ أو استشهاد"، وظهر السهم الأحمر المُصوَّب إلى أهداف جيش الاحتلال، كما في تسجيلات "القسّام"، في ملصقاتٍ على زجاج السيارات وأطرافها، وحافظات الموبايل...وغيرها. وبعد أسابيع من استمرار المقتلة الإسرائيلية، خفّ الاحتقان في محاولة للفهم واستيعاب حجم المأساة، قبل استعادة التظاهرات زخَمها، ليعود معها الاحتقان ويبرُز، هذه المرّة، بين المتظاهرين والأجهزة الأمنية.
كان الموقف الرسمي الأردني ناقداً حادّاً للهجمات الإسرائيلية، وتمثلّ ذلك في تصريحات المسؤولين الأردنيين
في المقابل، كان الموقف الرسمي الأردني ناقداً حادّاً للهجمات الإسرائيلية، وتمثلّ هذا في تصريحات المسؤولين الأردنيين، بداية من رأس الهرم السياسي، وصولاً إلى المخوّلين بالتصريح. ولعل مواقف وزير الخارجية، أيمن الصفدي، كانت واضحةً في نقدها إسرائيل، حتى أن بعض العارفين المقربين وصفوها لكاتب هذه السطور، متحفّظين إلى درجة ما، بأنها تكاد تعدّ "خروجاً عن الأعراف الدبلوماسية"، وطبعاً كانت الإنزالات الجوية للمساعدات الإنسانية من المقترحات الأردنية التي حظيت بترحيبٍ دوليٍّ في ظل تعنّت الإسرائيلي يرفض دخول المساعدات إلى القطاع.
لكن السؤال: ماذا تغيّر؟ ولماذا عادت التظاهرات بشكلها المحتقن؟ وما سبب الاحتقان إن كانت المواقف الرسمية والشعبية متقاربة (في حدود التمييز بين حسابات الدولة والسياسة في مقابل حسابات الشارع والتظاهر)؟. يربط بعضُهم الأمر بتفاقم الأزمة في غزّة، خاصّة في جانبها الإنساني، وحال الإحباط من غياب حلٍّ للأزمة المأساوية المتفاقمة والمستمرّة. ليست الإجابة سهلة من دون جهد تحقيقي أو استقصائي في قياس الرأي العام. مع تصعيد المتظاهرين احتاجاتهم صعّدت السلطات الأردنية بحملة اعتقالات طاولت ناشطين وصحافيين، ما زاد من احتقان الشارع. "لماذا يُعتقل من يشتم نتنياهو؟"، في تعبير أحدهم. انقسم المتظاهرون، في شعاراتهم أيضاً، بين الإسلاميين (الإخوان المسلمين) والشبّان الأقرب لما يوصفون أردنياً بالجبهويين واليساريين، والشبّان الناشطين غير المنتسبين للأحزاب، حتى أن بعضهم اتهم الفريق الأول بمحاولة خطف التظاهرات، وهو فريقٌ أقرب إلى حركة حماس أيديولوجياً. هنا تتعقّد الأمور أو قد تعطينا إطاراً لتفسير تعقيدها.
بعد أحداث 7 أكتوبر، أعيد انتاج الهوية الفلسطينية المستقلّة، ولو على شكل شعارات ومظاهر مختلفة
هناك تحوّلٌ أنثربولوجي اجتماعي في الأردن، بعد "7 أكتوبر"، فأردنيون كثيرون من أصول فلسطينية أعادوا الارتباط بالهوية الفلسطينية، من باب أحداث غزّة، خصوصاً من الأجيال الجديدة، التي بدت أقرب إلى الهوية المدينية الحديثة منها إلى الهويات الأولية، وهذا طبيعي، ويعبّر عن السيرورة التاريخية، خلال السنوات الأخيرة، وهو ما توافق مع كون طبيعة بنية الحركات المعارضة خلال العقد الماضي، ذات طابع شرق أردني، ما شكّل شرخاً (قد يكون إيجابياً) في فكرة التقسيم الوظيفي: مَنْ مع السلطة ومُنْ ضدّها. لم يعد هذا مطروحاً، وشكّل بدايات ظهور لقالب هوية وطنية مدمجة وجامعة، وإن كانت بفعل الظرف السياسي، لا بفعل إرادة سياسية. لكن بعد أحداث 7 أكتوبر، أعيد انتاج الهوية الفلسطينية المستقلّة، ولو على شكل شعاراتٍ ومظاهر مختلفة، باتت تثير الخوف لدى أطيافٍ من دعاة الهوية الوطنية الأردنية، ليعود المجتمع إلى خانة الانقسام، رغم دعم الفريقين غزّة، وابتهالاتهم لأهلها في الشهر الفضيل وقبله، ولم تكن موضع خلاف أساساً، إذاً فالعلّة بنيوية.
إضافة إلى ذلك العامل البنيوي في المجتمع، هناك العامل الإقليمي، بوجود دولٍ قلقة من أي بروز للإسلاميين في الشارع، وتعتقد أن السلطات في الأردن لم تفعل ما فيه الكفاية للجمهم، رغم جولاتٍ من الصدام القانوني والأمني بين الطرفين، فالإسلاميون ما زالوا قادرين على التحشيد في الشارع، أكثر من أي جهة سياسية أخرى في الأردن، وهم حالياً في مرحلة مدٍّ شعبي عالٍ في الشارع الأردني حلفاء لحركة حماس. وبالتالي، هذه ورقة لا يمكن تجاهلها، لكنها مرّة أخرى تثير مخاوف في الداخل.
ولدى أطراف إقليمية، على الجانب الآخر، تداخلٌ يُخفي حرباً بالنيابة، ولو باردة إلى الآن، وعبر وسطاء قيد التشكّل، كما برز في بيان أبو علي العسكري، الشخصية غير المعروفة، لكنه أسمٌ يجري استخدامُه لتمرير رسائل الفصائل العراقية المسلّحة المدعومة من إيران (كما يتداول الوسط الإعلامي العراق، وكما أثبتت السوابق من البيانات)، التي دخلت على خط تهديد الأردن بدعم "الأشقّاء من مجاهدي المقاومة الإسلامية في الأردن" معدّداً أياماً تسعة للتظاهرات في الأردن، وهو توقيت عودة تلك التظاهرات بشكل مفاجئ. والمفارقة أن ذلك التاريخ يعود إلى يوم تنظيم الدولة الإسلامية في موسكو، وترافق مع حملةٍ إعلاميةٍ مؤيدة للتظاهرات في الأردن بين مجموعات الفصائل العراقية الإعلامية.
كل هذا التداخل يجعل خيارات مطبخ القرار السياسي الأردني صعبة، لإبقاء التوازن بين المعادلة الداخلية والخارجية، ولعلّ دفع الكرة إلى الأمام وفتح النقاش العام عن الهوية الوطنية قد يكون الخيار الأمثل والأصعب حالياً، وهو لا ينفصل عما يجري في غزّة واقعاً، وإلى ما ستؤول إليه الحربُ فيها، التي تُبقي نذر الأزمة قائمةً في كلِّ مكانٍ في الشرق الأوسط، وعمّان في القلب من الإقليم بطبيعة الحال.