الأردن: سنة أولى تحديث سياسي

22 مايو 2023
+ الخط -

انتهت عملية تطبيق القانون الجديد للأحزاب في الأردن رقم 7 لعام 2022، بعد إقرار قانوني الأحزاب السياسية والانتخاب، إلى تقلّص عدد الأحزاب التي أجرت تسوية لأحوالها، وفق القانون، ليصل إلى 27 حزباً، وهناك أحزاب جديدة بصفة تحت التأسيس، بصيغ وبرامج ومرجعيات فكرية جديدة، وقد يصل العدد لاحقاً إلى 32 حزباً مرخّصاً، بعد أن كان العدد سابقاً يزيد عن 56 حزباً، بعضها حلّ نفسه وبعضها اندمج من أجل التأقلم مع مخرجات التحديث السياسي الذي سعى الأردن إليه منذ عامين.
إذن، في السنة الأولى للتحديث السياسي تقلّص عدد الأحزاب في الأردن، وفي المستقبل سوف يتراجع العدد حتى الوصول إلى البرلمان المقبل عام 2024 والذي حدّد قانون الانتخاب الجديد للأحزاب فيه 41 مقعداً بنسبة 30% من المقاعد في المجلس النيابي المقبل (العشرين) مروراً بـ 50%، للمجلس الذي يليه ووصولاً إلى نسبة 65% خلال السنوات العشر المقبلة. 
هنا لعلّ الأزمة المنتظرة تتمحور في قدرة الأحزاب الجديدة على إقناع الجمهور والتصويت لبرامجها، وهي حتماً ستعاني من بلوغ نسبة العتبة التي قرّرها القانون على القوائم، وتوجب الحصول عليها للتنافس على المقاعد المخصّصة لكل دائرة انتخابية، وهي 7% من مجموع المقترعين في الدائرة المحلية، و2.5 % من عدد المقترعين في الدائرة العامة الحزبية.

لعلّ مسألة الكوتا الحزبية ستوفر فرصة تاريخية للأحزاب في دولة مثل الأردن لتقديم الأفضل

وفي المشهد الراهن، تسعى الأحزاب الجديدة إلى تغيير قواعد اللعبة، ومع القناعة المترسّخة لدى النخب وأهل السياسة بأن التوجيه الملكي نحو التحديث حسم مستقبلاً شكل مجالس النواب، يُراد لها أن تكون مجالس منتخبة بنصفها على أساس حزبي، فهو توجيه لصالح تغيير شكل الأغلبية البرلمانية، بدلاً من أن تكون تقليدية خدمية قبلية، لتتحوّل نحو السياسة واللغة البرامجية التي تُعين على تغيير جذري في تمثيل الناس برلمانياً.
ولعلّ هذا التغيير في هندسة مجلس النواب وشكله، لن يكون سهلاً، لكنه مطلوب في ظلّ تراجع خيارات الناخب في المجالس النيابية أخيراً، ولعلّ تجربة الانتخابات النيابية التي جرت للمجلس الحالي التاسع عشر وما قذفت به من وصول نحو مائة نائب جديد بخبرات سياسية وتشريعية قليلة، قد عجّل في ضرورة إنقاذ بنية مجلس النواب من التراجع الذي أصابها في السنوات الأخيرة، وهو أمر انعكس على العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وتراجع الثقة بهما شعبياً بنسبة كبيرة، كما تشير استطلاعات الرأي. 
والسؤال كيف سيكون وجود وأداء شكل الأحزاب، في ظل ضعف الإقبال عليها؟ لعلّ مسألة الكوتا الحزبية ستوفر فرصة تاريخية للأحزاب في دولة مثل الأردن لتقديم الأفضل، وهي أحزاب ببرامج أردنية وليست بدعوات وأفكار خارجية أو عابرة للأوطان، ومعنى هذا أن شكل القاعدة النيابية الحزبية القادمة في المجلس النيابي المقبل بات محسوماً بمعزل عن الشعاراتية السياسية والوعود الكبرى وصراع الغلبات مع الحكومات.

تعرّضت الحياة السياسية قبل عامين من الربيع العربي لصراع بين قطبي الرحى في إدارة السياسة الأردنية

صحيحٌ أن الحياة الحزبية في الأردن بدأت مبكّراً، وتطوّرت في ظروف مختلفة في كل فترة عبر قرن، فكانت ولادتها في حقبة الإمارة متزامنة مع نمو الحركة الوطنية وتشكلّ الهوية الأردنية وتبلورت مطالبها بالاستقلال ومواجهة الانتداب البريطاني، ثم عادت فيما بعد الاستقلال وتطوّرت استجابة لتأثيرات إقليمية وعالميّة، مع اتساع حضور الأحزاب الوطنية والقومية والأممية، ونتج عن هذه الحقبة تشكيل حكومة حزبية ائتلافية يتيمة في الأردن عام 1956، ولكن التجربة انتهت بحظر الأحزاب، وبعد عام 1989 جاءت نشأة الأحزاب في صورة مغايرة للأشكال التي بدأت في أزمنة الإمارة وما بعد الاستقلال، وجاءت متماثلة التشكيل وفرديّة، واستفادت من قانون الأحزاب الذي صدر عام 1992، ونمت بعضها، واختفى لاحقاً عدد منها، وخاض بعضها تجارب مهمة وما زال يقاوم لأجل البقاء، لكن هذه الأحزاب لم تبلغ القوة والانتشار المجتمعي ولم تستطع أن تتغلغل في المجتمع.
 تزامن ذلك مع انعطافات حادّة في الحياة الديمقراطية، على رأسها قانون الصوت الواحد، وانعكاساته السلبية على التقدّم الديمقراطي، وظهور طبقة من الأثرياء الجدد الذين مارسوا لعبة المصالح والغنائم مع الحكومات، كما حدث في مشروع سكن كريم عام 2008، وانتهى بصورة قضية فساد لملمت على عجل، وهناك العديد من شواهد المصالح والغنائم السياسية بين النواب والحكومات.
لاحقاً، تعرّضت الحياة السياسية قبل عامين من الربيع العربي لصراع بين قطبي الرحى في إدارة السياسة الأردنية، بشكل تيارين انتهى رأساهما إلى السجن: رئيس الديوان الملكي السابق باسم عوض الله ومدير المخابرات محمد الذهبي، ثم جاءت حكومة سمير الرفاعي التي رحلت مع بداية الربيع العربي، ولحقتها حكومات ضرورة ومُدد بين عامي 2010 و2020 تعاقب عليها كل من معروف البخيت، وفايز الطراونة، وعون الخصاونة، وعبد الله النسور، وهاني الملقي، وعمر الرزاز، وصولاً إلى حكومة بشر الخصاونة.

كان قانون الانتخاب لعبة سخيفة في العقد المنصرم أدّى تغييره بأكثر من شكل والانتخاب على أشكال عدة إلى تخلّف الأردن ديمقراطياً

لم تستطع هذه الحكومات تعزيز التقدّم الديمقراطي ولا التنمية، بل زاد الدين العام، وتراجع الاستثمار، وزادت البطالة، وفي مقابل ذلك الإخفاق تراجع الحراك الشعبي وانخفض الغضب، وظهرت أصوات معارضة خارجية، ودخل الملك على خط التدخل في فك الجمود في مسار الإصلاح عن طريق الأوراق النقاشية، والتوجيه المباشر للنخب، والحفاظ على أداء المؤسّسات وتماسكها، وخاصة المؤسسة الأمنية، وصولاً إلى قناعته بضرورة تغيير شكل مجلس النواب نحو الأفضل، وبممارسة حزبية مضمونة مقاعدها بالقانون، لتكون تلك أفضل فرصة لتوفير فرص حقيقية للتقدم الديمقراطي، ومساءلة الحكومات، ومحاربة الفساد، وتعزيز الثقة بمؤسسة البرلمان، وضمان استقرار التشريعات وعدم تغييرها، وخاصة قانون الانتخاب الذي كان لعبة سخيفة في العقد المنصرم، أدّى تغييره بأكثر من شكل والانتخاب على أشكال عدة إلى تخلّف الأردن ديمقراطياً، وانعدام تشكل أغلبية برلمانية مسيسة.
صحيحٌ أن الأغلبية الأردنية في الأردن كان الراحل الملك الحسين يصفها بـ"الصامتة"، مقابل التيارات التي كانت تغطّى لغتها الشعاراتية على أطروحات الحكومات وبرامجها، وصحيح أن الراحل الحسين كان يستحث تلك الأغلبية للتعبير عن آرائها والتقدم بالديمقراطية، وكان عام 1989 استثنائياً في العودة عن الحياة العرفية، لكن لاحقاً كانت الحكومات والأجهزة الأمنية ذاتها تتجنب الخيار الديمقراطي الحقيقي وتخشاه، لا بل تحاربه، وتفضل مجالس نواب مطاوعة ومحكومة بيدها وبغنائمها الممنوحة للنواب.
اليوم يريد الملك عبد الله الثاني تشكيل "أغلبية فاعلة" في المملكة، بجيل جديد من النخب تتعامل مع الحكم مستقبلاً، لصالح مسار مضمون ومحكوم بقوانين ومدد، وتوصيات تخصّ الشباب والمرأة، وبما يدفع الأردن نحو الأمام وبهدوء، مع شرط الاستقرار والانتقال التدريجي نحو برلمان حزبي برامجي. 

F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.