اقتداء الغالب بالمغلوب!
قرأنا في مقدّمة ابن خلدون أنّ المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. فما الذي حدث؟ هل انقلب العالم وباتَ عاليه سافله؟ يوم الاثنين 10 يونيو/ حزيران 2024، غداةَ حَلِّ البرلمان، ذهبَ الرئيسُ الفرنسي، ماكرون، إلى منطقة الهُوت فيين، للإشراف على احتفالات الذكرى الثمانين لتحرير بلاده من الاحتلال النازي. التقى هناك أحد رجال الأعمال الكبار المقرّبين من الإليزيه، ودار بينهما حديثٌ أنكرته الرئاسة بعد ذلك، لكنّ صحيفة لوموند أصرّت على تأكيده. بدا ماكرون مشغول البال بعد نتائج الانتخابات، فحاول رجل الأعمال مجاملته، راجياً أن يعبر هذه الأيّام الصعبة بيسر. وقد يكون الرئيس الفرنسي ردّ مبتسماً أنّها ليست صعبة كما يتصوّر بعضهم. "لقد خطّطتُ لهذا منذ أسابيع وأنا سعيد للغاية. ألقيت قنبلتي اليدويّة بين أرجلهم، والآن نرى كيف سيتصرّفون...".
عبارة يصعب تصديقها. جديرة ببلاطات الحكم في جمهوريات الموز، إلّا أنّ إصرار الرئيس الفرنسي حتى كتابة هذه السطور على عدم تسمية رئيس وزراء من الائتلاف اليساريّ يرجّح صدقيّتها، ويدلّ على أنّ الديمقراطيّة باتت مأزومة في أعرق معاقلها العالميّة. أزمة شبيهة بالنكتة، وأقرب إلى مشكلات الأثرياء كما تقول العبارة الرائجة، بالقياس إلى ما يحدُث في معظم بلادنا العربيّة، حيث لا قوانين ولا حقوق ولا انتخابات ولا مؤسّسات، حيث يعيش معظم المواطنين في فم الذئب. وعليهم القبول والاستسلام، وإلّا ألقيت "القنابل اليدويّة" من هذه النوع في أفواههم مباشرة، وليس بين أرجلهم.
كان ديكور التداول على السلطة في الغرب بما يغلب عليه من السلاسة والتحضّر سرّ جاذبيّة الديمقراطيّة الغربيّة الأوّل، إلاّ أنّ الرؤساء الديمقراطيّين جدّاً جدّاً باتوا شبيهين جدّاً جدّاً بزملائهم غير الديمقراطيّين. أصبحوا عنيفين جدّاً، ودعاةً إلى العنف. وقفنا على ذلك سنة 2021، ونحن نشاهد مذهولين رئيس الولايات المتّحدة المنتهية ولايته، دونالد ترامب، يتمسّك بالكرسي، ويشجّع أنصاره على الشغب وعلى اقتحام الكابيتول. وها نحن نراه يعود بعد سنوات طمعاً في عهدة رئاسيّة جديدة، وكأنّه أخ توءم لبعض حكّامنا مدى الحياة. عجبًا! كانوا يسخرون منّا حين يصدر مثل ذلك عن الساحات السياسيّة في الجنوب أو الشرق، فما الذي حدث لهم؟ ما الذي حدث لهؤلاء "الغالبين"؟
أذكر دعابة منسوبة إلى كوندليزا رايس عن دبليو بوش، حين عادا من جولة أوروبيّة، واجتمعا في المكتب البيضاوي، استعداداً للحملة الانتخابيّة القريبة في تلك الأيّام. فكّر دبليو في أنّ الحياة جميلة حقًّا حين يكون الواحد رئيساً لأعظم دولة، فلماذا يشعر بألم غريب ينغّص عليه حياته؟ فكّر قليلاً، ثمّ بدا له السبب واضحاً مثل الشمس: إنّه قُربُ الانتخابات. وتقول كاندي: تناول دبليو رشفة من فنجان القهوة، ثمّ قال ضارباً كفّاً بكفّ: "آه يا كاندي. كم أحسد أولئك الرؤساء في تلك البلاد التي لا انتخابات فيها ولا هم ينتخبون. وإذا تجرّأ أحدٌ وترشّح ضدّهم مزّقوه. ولكن ما العمل؟ هذا قدري".
ادّعَى الرجل الأبيض أنّه بطل معسكر الخير، ثمّ ارتكب أفظع الإبادات واستعمل أبشع الأسلحة. ادّعى الإنسانُ الغربي أنّ قدره الديمقراطيّة، ثمّ انقلب عليها في ذُرًى غير مسبوقة من العنف المسعور. توحّش العنف الغربيّ أكثر من مرّة. إحداها من خلف قناع النازيّة وأحدثها من خلف قناع الصهيونيّة. وفي كلّ مرّةٍ، كانت الشعبويّة سلّمه لاقتياد الديمقراطيّة إلى الحضيض. استحضرتُ قبل سنوات عبارة جون روستان "يكمن ضعف الديمقراطية في أنها كثيراً ما تضطرّ إلى التنكّر لذاتها كي تستمرّ في الحياة". وسألت: هل تستمرُّ الديمقراطيةُ في الحياة إذا تنكّرت لذاتها؟ وها هي الأحداث تضطرّني إلى طرح السؤال من جديد.
العنف فيروس لا مُضادَّ له إلّا دولة الحق والحريّة والحوار. وكلّ ما عداها طريقةٌ عبثيّة لإجبار المرآة على الكذب: نكسر المرآة لتقول لنا إنّنا الأقوى والأجمل، لكنّنا ننسى أنّها حين تُكْسَرُ لا تقُول بل تُدمّر. لذلك اختار جانبٌ كبير من البشر الديمقراطيّةَ لا فردوساً، بل أفضل إطار للخلاص من تبعات العنف. من ثمّ مسؤوليّتُنا الكبرى في أن نتحرّر من غواية الثأر من العنف بالعنف، وفي أن نمنع "الغالب" من الاقتداء بالمغلوب في أسوأ ما لديه من أحوال وعادات وشعارات وممارسات و"انتخابات".