"زومبي لاند"
ليس من شكّ في أن انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتّحدة للمرّة الثانية إعلانُ سقوط صورة الغرب الفردوسيّ الذي دمّر الكيانُ الصهيونيّ آخرَ أقنعتِهِ بحرب الإبادة، التي ما انفكّ يشنّها على الفلسطينيّين وعلى سائر بلاد "الأغيار". سقط غربُ "ديزني لاند" وحلّ محلّه غربُ "زومبي لاند". غربٌ في مستوىً غير مسبوق من الحضيض. فريسة موتى أحياء أو أحياء موتى، أشباح بهيئة أفراد ومجتمعات وشعوب تدفن واقعها في سرديّات أبشع من أسلحة الدمار الشامل، تكشّر عن مخالب مسنونة، وأنياب دامية، ووعي ميّت، من دون أن تترك غرائزُها للعقل أن يتعلّم من الماضي، متأرجحةً بين العمى والصمم والبكمة، تجوب العالم مشوّهةً كلَّ شيء، مدمّرةً كلّ شيء، ملتهمةً ما تبقّى من الإنسانية، تماماً كما هو الشأن في فيلم "Night of the Living Dead" (ليلة الموتى الأحياء، 1990) لجورج روميرو، حيث يمشي الموتى بلا هدف عدا مطاردة البقيّة الباقية من الأحياء.
لا مناص من الاصطدام بهذه الفئة من الأشباح في هذه الأيّام. ويبدو أنّنا منذورون للاصطدام بها مدّةً لا تقلّ عن عهدة ترامب الجديدة. هذا إذا لم تتفشَّ العدوى في عدد غير قليل من الدول، التي رأينا كيف خرج الوحش أو "الزومبي" فيها من روايات الرعب وأفلامه، ليتلبّس بحياتها اليوميّة. في فيلم "The Apprentice" (التلميذ أو الصانع المتدرّب) للمخرج الدنماركي الإيراني علي عبّاسي، نرى روي كوهين، محامي ترامب الأب، ثمّ ترامب الابن، يحذّر عمدة نيويورك قائلاً: "إن ترامب لن يتوقّف حتى يحصل على ما يريد". تحذير يتجاوز الشخص ليشمل قادة الجائحة الشعبوية الشاملة، إذ لم يعد ثمّة فارق يمكن انتحاله بين البشر الحيوانيّ في الغرب والحيوان البشري في الشرق. جميعهم يُغتال، جميعهم يُقتل على الهُويَّة، بل ها هم يُقتَلون استباقيّاً على أساس النيّة العدوانيّة التي ينسبها "الزومبي" إلى كلّ طرفٍ يريد التخلّص منه. ابتلع كرونوس خمسةً من أبنائه باسم ثقافة محاكمة النيات، إلّا أنّ زوجته أخفت عنه الابن السادس، زيوس، الذي انتزع عرش الكون بعد معركة كادت تدمّر كلّ شيء. فإلى متى نظلّ محتاجين إلى دمارنا كي نكتشف واحدةً من أبسط البداهات، أنّ علينا محاكمة الأعمال قبل النيّات، وأنّ لكلّ "كرونوس" مهما بلغ من القوّة يتربّص به "زيوس" في العتمة؟
في الفيلم نفسه (The Apprentice)، نرى روي كوهين يلقّن ترامب الشاب قواعد الدمار الأخلاقي الشامل. كان كوهين محامياً بلا ضمير، يرى القيم الإنسانية عراقيلَ والقوانين أدواتٍ للتحايل. هكذا تبدأ تربية "الزومبي"، ولنا أن نستحضر مشهد كوهين وهو يلقّن تلميذه أسس النجاح الثلاثة: هاجِم دائماً، لا تعترف بالخطأ، لا تقرّ بالهزيمة. هذه الأسس الثلاثة أصبحت حجر الزاوية في شخصية الحاكم الشعبويّ، رأيناها عند بنيامين نتنياهو وزمرته، وعند كثير من ورثة النازيّة في أوروبا. وحتى عند "متنوّرين" أو لعلّنا نحسبهم كذلك، غلَبَهُم إحساسهم بالإثم تجاه "أوشفيتز" فأغمضوا ضمائرهم عن غزّة (!)، ويبدو أن استدعاء الأميركيين ترامب من جديد إلى الحكم مؤشّر على أنّ "بعض" الشعوب تحوّل أيضاً جمهوراً شعبويّاً، يستطيب وحوشه المُعربِدة، ويطيب له احتقار الغريب، وتحقير المرأة، وتقسيم "الغير" أو "الأغيار" بين بشر وحيوانات بشرية، والعبث بالقوانين والقيم التي صنعت مجد "الغرب". ويزداد الأمر غرابةً حين نرى مشاركة كثير من "الضحايا" المهاجرين في استدعاء الوحش وانتصاره، فإذا نحن نسأل من هو الأستاذ "الزومبي" ومن هو "الزومبي" التلميذ؟
تُذكِّرُنا هذه الأسس الثلاثة باستعارة قردة الحكمة "ميزارو" الذي لا يُرى، "كيكازارو" الذي لا يُسمع، "إيوازارو" الذي لا يتكلّم. أراد الصينيون واليابانيون القدماء بهذه الاستعارة المُضِيَّ بالأفعال الناقصة إلى كمال، وها نحن نرى كيف تؤول الأفعال الكاملة إلى نقصان. أراد الحكماء الأُوَل الارتقاء بالقردة إلى مرتبة البشر، فإذا بالبشري يتخطّى مرتبة القردة إلى زومبي بلا عقل ولا روح ولا ضمير. لقد تفشّت عدوى هذه "الترويكا القرديّة" لتصبح رمزاً لانهيار أخلاقي شامل بوحوشها البشعة. وعلينا أن ننتصر على هذا النوع الكاسر من "الجوائح". لكنّ النصر لا يتحقق مصادفةً، علينا أن ننفض غبار الموت المتحجّر فينا. لا الهزيمةُ قدَرٌ ولا النصرُ هديّة. علينا أن نقاوم وأن ندافع عن إنسانيتنا قبل فوات الأوان.