وادي السيمولاكر
يأخذك الكاتب الفرنسيّ المختصّ بالخيال العلمي، آلان دامازيو، في كتابه "وادي السيليكون" (سوي، باريس، 2024)، إلى عالمٍ يبدو فيه الخيال أكثر واقعيّة من الحياة اليوميّة. هناك يلتقي طرفا الوجود الرقمي، الإنسان الحالم والآلة العاملة، لإيهام البشر بأنّه يحقّق مبتغاه ويعثر أخيرًا على فردوسه المنشود: عالَم يكتفي فيه الإنسان بالحياة والمتعة بينما الذكاء الاصطناعيّ يتولّى العمل عن طريق الآلة مستجيبًا لكلّ طلب مجيبًا عن كلّ سؤال.
وأنت تتجوّل مع الكاتب في وادي السيليكون بسان فرانسيسكو، تشعر بأنّ ثمّة نسخة مُفَقَّرة من ذلك العالم تغادر كاليفورنيا، لتُزرَع في كلّ بلد، مهما كان موقعه من الفجوة الرقميّة. تشعر بأنّ اختلاف المكان والإمكان لا يمنع نوعًا من التناسخ العجيب: البطش بالقيم نفسه. الفتك بالأحلام. التحايل نفسه. الخديعة نفسها من جهة إفراغ الكلمات من معانيها. فجأةً إذا بوادي السيليكون مشرعٌ هناك على تطبيقاتٍ تدّعي تحويل الشعارات إلى واقع. بينما هو مُشرعٌ عندك على نسخةٍ تُحوّل الواقع إلى وهم، وتحوّل كلمات، مثل حريّة وديمقراطيّة وانتخابات وحقوق إنسان، إلى أقنعة، بالمعنى الذي ذهب إليه بودريار. فإذا أنت خارج الحاجة، فريسة أشرس أنواع الإبادة، تبحث وتجدّ في البحث فلا تجد تسميةً لهذه النسخة أفضل من "وادي السيمولاكر".
يوهمك وادي السيليكون، وفقًا لهذا الكتاب، بأنّك أصبحت إنسانًا مزيدًا معزّزًا. تدوّخك التطبيقات الممتدّة من حولك، كأنّها امتداد لعضلاتك وحواسّك وملكاتك. تنتشي بالوصلات الخفيّة المتشابكة عبر منظومة الذكاء الصناعي، فيخيّل إليك أنّك شخصٌ آخر. تتوهّم أنّك حقّقت فعلًا ثلاثيّة البطل الأولمبي المثاليّة: أقوى أعلى أسرع، وأنّك امتلكت قدرات إضافيّة خارقة. ثمّ يهمس في أذنك دامازيو "أنت لا تملك شيئًا من هذا العالم. هذا العالم هو الذي يملكك". فتقع من علٍ وتكتشف أنّ تلك القدرات المزيّفة لا تمكّنك من امتلاك أيّ سلطة، بل هي طريقة لتجريدك من كلّ سلطة، فإذا أنتَ تحت سيطرة من تخيّلت أنّك تسيطر عليه.
ثمّ تنظر إلى نفسك، فإذا أنت في وادي السيمولاكر، تعاني الأوهام نفسها. تنخرط في السرديّات التي تُباع لك كأنّك تنخرط في طقس الدينيّ. تتحوّل إلى دابّة في قطيع. تفقد الرغبة في لمس الأشياء، بعد أن كاد يغلبك اليأس من تغييرها. تنسى جسدك، فإذا أنت كائن نصف هلامي، وإذا الملموسات من حولك حلمٌ تحنّ إليه. تكاد تتحوّل إلى مخلوق خوارزميّ. تكاد تذوب أو تتبخّر. لولا أنّك تتمترس قدر المستطاع بروح التمرّد فيك فاتحًا في ذلك الحنين نوافذ على الوعي النقدي والإرادة الحرّة، مشرعًا هشاشتك دفاعًا عن إنسانيّتك في وجه القهر.
استغرب دامازيو العنف المختفي خلف الأقنعة في وادي السيليكون. استغرب أن تتجاور مظاهرُ الفقر والإدمان ومظاهرُ الثراء الفاحش بتلك الشراسة من دون أن يثير ذلك ما يستحقّ من أسئلة أخلاقيّة ضروريّة لدى شباب لاهٍ بألعابه أعمى أصمّ عن كلّ ما يحدث من حوله، بالرغم عن الجرعات الزائدة من فظاعات الفساد والاستبداد والاستعمار المتجدّد. لذلك حذّرنا من وَهْمِ التواصل المخيف الذي تحوّل إلى أيديولوجيا كاسرة، تحت تصرّف مجموعاتٍ من التلاميذ السحرة في وادي السيليكون، انقلب عليهم السحر، وهم الآن على وشك فقدان السيطرة نهائيًّا على الغول الذي أخرجوه من جحيم هويّهم وخيباتهم وشروخهم النرجسيّة. ها هو البشر يوشك أن يصبح عبدًا لكيانٍ من الذكاء الاصطناعي الخاصّ به، يصاحبه على امتداد ساعات اليوم الأربع والعشرين. كيان يتذكّر مكانه، ويفكّر مكانه، ويتصوّر ويتخيّل عوضًا عنه. يتسلّمه حين يفيق ويودّعه ما إن يذهب إلى النوم، بل ربّما يشاركه أحلامه هذا إن لم يملِها عليه، محوّلًا كلّ أنواع العلاقات إلى نوع من البرود الفظيع، البشع، الذي ينتج العنف، ويسهر على تطبيع العنف.
في وادي السيليكون، ينجم العنف عن تطوُّر تقني من دون ضوابط أخلاقية أو بضوابط منفلتة، وتنشأ المخلوقات السيليكونيّة على العنف من وراء الشاشات والتطبيقات، ويتدرّب اللاعب على مطاردتك وقنصك وقتلك. أمّا في وادي السيمولاكر فالعنف قيمة. هنا تعاد صياغة الوعي للقبول بالزيف والهوان والموت بوضفها حقيقة. وفي حين يتوهّم المواطن السيليكوني أنّه إنسانٌ معزّز، يحاول الجميع من حولك في وادي السيمولاكر إقناعك بأنّك إنسان منقوصٌ عاجزٌ مستطيعٌ بغيره، غير قادر على الفطام، مجعولٌ للانقراض، هذا إن لم يقنعوك بأنّك لست إنسانًا.