اعتزال فيدرر وتجديد النّخب .. همسة قد تُصغي لها أوطاننا

22 سبتمبر 2022

روجر فيدر في مباراة له في بطولة ويمبلدون في لندن (7/7/2021/Getty)

+ الخط -

أعلن، قبل أيام، اللاعب الكبير، روجر فيدرر، اعتزال التنس بعد بلوغه الأربعين وفوزه بعشرين بطولة كبرى. إنجازات أهّلته ليصبح من الثلة الصغيرة من الرياضيين الذين بلغت مداخيلهم المليار دولار. طبعا، لا يظنّن أحد أنّ المقالة عن شأن رياضي، بل هي قفزة في الخيال، بين رياضي عرف متى يتوقف فاتحا الباب أمام التجديد، إضافة إلى تجسيده معنى الإنجاز من خلال متغيّري عدد البطولات والمداخيل التي حققها منذ العام 2003، للربط مع ظاهرة التصميم على الاستمرار في القيادة، أيا كانت مسمّاها والمكان الذي تُمارس فيها، من دون أدنى إنجازات في أوطاننا، إنّها ظاهرة تجديد النُّخب ودورانها، تلك الظّاهرة الاجتماعية والبيولوجية التي تسمح بالتطور والتقدّم، ظاهرة طبيعية مرفوضة في أوطاننا.

لننطلق، منذ البداية، إلى ملاحظة أنّ اعتزال فيدرر جاء لسبب، وهو توقّف بدنه عن الإنصات لحجم الجهود المطلوبة للبقاء في القمّة، بل استمرار الإصابات، بما يعني أنّ ثمّة حدّا يجب أن يتوقّف فيه السّعي إلى البقاء في القيادة وتمرير المشعل لمن هو أقدر للوصول إلى تلك القمّة، بمعنى أنّ القمّة ليست حكرا على أحد، بل متوارثة بمؤشّر القدرة على الوصول إليها. كما جاء اعتزال فيدرر بعد تحقيقه ما هو مطلوب من كلّ من يريد الوصول إلى القيادة، أي الإنجازات، وبدونها لا يكون ثمّة معنى للوصول إلى القيادة، التمسُّك بها، التصميم على الاحتفاظ بها، ورفض تمرير المشعل لمن هو أقدر وأكفأ على تحقيق المطلوب وتجسيد الإنجازات.

النتيجة، في المحصّلة، أنّ الوصول إلى القمّة يمرّ عبر مؤشّرين: القدرة على القيام بمهمّات تلك القيادة ثمّ الكفاءة ومتى ما جاء وقت توقّفت فيه تلك القدرة أو قلّت تلك الإنجازات، يكون المنطق، بيولوجيا وطبيعيا، هو تمرير المشعل لمن سيعمل على استمرار الحياة بتلك المؤشّرات، وهو ما يسمّى فن القيادة، حقّا لا مجازا.

القمّة ليست حكرا على أحد، بل متوارثة بمؤشّر القدرة على الوصول إليها

جاءت تلك المقدّمة من وحي اعتزال روجر، لتسمح لنا بإثارة إشكالية تجديد النُّخب وعلاقتها بمؤشّري القيادة والكفاءة في أوطاننا، ذلك أنّ تلك الإشكالية هي أساس كل المشكلات التي نتخبّط فيها، وهي، في الوقت ذاته، روح نظريات اجتماعية طوّرها باحثون للحديث عن أهمية دوران النخب وتجديدها لضخ دماء جديدة في المجتمع، بما يفتح الباب أمام استمرار الحياة ونجاح العمل فيها.

منذ حصول أوطاننا على الاستقلال، ونحن نشهد حصر القيادة فيها في أفكار (أيديولوجيات) وشخصيات (نخب)، أيّا كانت خلفيتها، مدنية أو عسكرية، وصلت إلى الحكم، آنذاك، بسبب الحاجة إلى حيوية بناء الدولة، بطرقٍ ملتويةٍ نجح التيار الجارف للوطنية ونشوة الحصول على الاستقلال في إخفائها، فترة. ولكن عندما حان الوقت، بعد عقود، لتقديم فاتورة الإنجازات وتصاعد مطالب الحقّ في التداول على القيادة/ السُّلطة، بدأت مشكلات ما بات يُعرف بالاستبداد تطفو إلى السطح، وتصنع مشاهد الاستعصاء/ الامتناع عن التغير، وخصوصا بعد تزامن ذلك بثلاثة معطيات زادت الطين بلّة: النفط، الإرهاب، الموقع الجيوسياسي لأوطاننا، في قلب حركية النظام الدولي، الشرق الأوسط (القضية الفلسطينية وضمان أمن الكيان الصُّهيوني).

أدّى ما سبق إلى طرح قضايا الشرعية من خلال سؤال حيوي: من له الحقّ في الحكم، وكيف يصل إليه، يمارسه ويبقى فيه؟ ما هي الآليات التي يمكن من خلالها التدقيق في مؤشّر النجاح/ الفشل أي كيف نقيّم الانجازات؟ وما هي آليات التداول على القيادة للحفاظ على السير الحسن لشؤون السياسات العامّة، في كلّ الميادين؟

منذ حصول أوطاننا على الاستقلال، ونحن نشهد حصر القيادة فيها في أفكار (أيديولوجيات) وشخصيات (نخب) بعينها

سمحت كلُّ هذه الأسئلة لأطياف المجتمع، بكلّ خلفياتها السّياسية، الفكرية والعلمية بالمشاركة في اقتراح أجوبة سعيا لإثراء النّقاش، ومن بين تلك الأفكار التي نشأت من رحم تلك الإشكالات فكرة ضرورة تجديد/ دوران النُّخب وفق معطياتٍ أصبحت، الآن، معروفة لدى العامّ والخاصّ، وتحمل مسمّيات وعناوين عديدة، منها التحوّل نحو الديمقراطية، التغيير، الشفافية في التسيير، آليات المحاسبة والتدقيق في الإنجازات من خلال المؤسّسات المنتخبة، الرقابة لعمل القيادة، ومدار كلّ تلك العناوين إشكالية واحدة، لها مسمّيان، أولهما سياسي، هو التداول على السُّلطة، والآخر اجتماعي/ بيولوجي يحمل عنوان دوران/ تجديد النخب.

من الطبيعي، إذن، أن يكون الربط بين مسألة التداول على السلطة والضرورة الحيوية لتجديد/ دوران النخب، فالمطالب بالتغيير تربط بينهما، والتغيير لا يمكن أن يحدُث، ولا يتجسّد التحول نحو الديمقراطية إذا لم يكن هناك مسار للتفكير، فلا تمرير المشعل من جيل إلى جيل، لأن الزمن يتغير شكلا ومضمونا، وما كان يصلح في زمن لا يصلح، حتما، لزمن آخر. لنجعل زمننا الحالي، بكلّ ما فيه من عناصر، واقعية وافتراضية، نموذجا لنرى، من خلاله، أنّ ما كان يصلح للفترة التّالية للاستقلال لم يعد، إطلاقًا، يصلُح، الآن، لجيل تعلم، شاهد تجارب العالم، اتصل بالحضارات الأخرى، قرأ التاريخ وتشبّع بتكنولوجيا السُّرعة، الاتصالية والافتراضية، بل ويشاهد، يوميا، بتلك التكنولوجيات إلى أين وصلت مقاربات التغير، الديمقراطية، ماذا تعني مسارات الانتخابات، وليس صندوق الانتخاب كما يشاهد، بأمّ عينيه، رؤساء وزراء ورؤساء في الثلاثينيات من أعمارهم، ويشاهد، أيضا، تجارب تمرير المشعل في الدُّول المتقدّمة، وكيف أنّ دوران/ تجديد النُّخب ظاهرة طبيعية، وليست شاذّة كما يتمّ إدراكها في أوطاننا.

الإنسان لا ينفكّ يبحث عمّا هو جديد حتى في القيادة، وهو مفتاح لدوران/ تجديد النُّخب

وبالعودة إلى ما جرى من أحداث، في العالم العربي، منذ 2011، ممّا بات يُعرف بموجتي الرّبيع العربي، فانّه حدث لأنّ ثمّة غيابا/ تغييبا لمبدأ بيولوجي وسياسي/ اجتماعي هو دوران/ تجديد النُّخب، حيث إنّ النُّخب نفسها كانت تحكم، وعندما يقترب أوان الساعة البيولوجية لتقول كلمتها، تسارع تلك النُّخب إلى وراثة نفسها مستأثرة بكلّ شيء، بالسُّلطة كلهـا وبالمال وخيرات الأوطان كلّها، وهو أمر، في عين العامة، الشعب أو الرّعية، مفاهيم تُطلق على المحكومين، في أوطاننا، مرفوضٌ بالإنكار بسبب غياب أدوات التّغيير أو عدم تمكينهم منها، كما انّه مرفوض للتّداعيات التّي ما فتئت تمسُّهم من فقر/ إفقار، إهدار للكرامة والتّضييقات من كلّ نوع وطعم عقودا.

وللتأكيد على الإلهام الذي صنعه حدث اعتزال روجر التنس، نذكر، هنا، تغريدة زميلة في اللعبة وأسطورة التنس الآخر، رفائيل نادال، الذي قال، بالمناسبة، إنّ الوقت اقترب لأخذ القرار الصعب، لكنه قرار آت لا محالة. كما نذكّر، أيضا، علامة على فائدة دوران/ تجديد النُّخب، في الرياضة، وفي كلّ شؤون الحياة، ومنها السّياسة، بفوز ألكازار، الماتادور الإسباني الجديد في فلوشين ميدو، في أميركا، بالدورة الكبرى الأولى له، مدلّلا على أنّ الزمن مثل الساعة، تماما، عقاربها لا تتوقّف وكلُّ ساعة هي تالية لساعة سابقة ومفتاح للسّاعة المقبلة. وهكذا، دواليك..

وداعا روجر، وشكرا على أنّ اعتزالك ألهمنا مقالة وكلاما عن موضوع بعيد، كلّ البعد، عن أوطاننا. ولكنّه قادم، لا محالة، ذلك أن الولع بالتغيير شأن إنساني، والإنسان لا ينفكّ يبحث عمّا هو جديد حتى في القيادة، وهو مفتاح لدوران/ تجديد النُّخب .. انه قدر محتوم، وإنّ غدا لناظره لقريب.