اختبار غزّة يؤكّد فشل النظام العربي

اختبار غزّة يؤكّد فشل النظام العربي

19 نوفمبر 2023
+ الخط -

كالعادة، وكما توقّع كثيرون، فشلت القمّة العربية الإسلامية في الرياض أخيراً، في تقديم حلول واقعية وحقيقية لمواجهة القصف المستمرّ على قطاع غزّة، الذي دخل أسبوعه السادس، وسط ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جرائم حرب يومية ضد المستشفيات والبنايات الآهلة بالسكّان، واستشهاد آلاف من المدنيين من أهل غزّة، خصوصاً الأطفال والنساء. وبدا فشل هذا النظام من البداية في تحديد موعد بعيد لعقد القمة بعد شهرٍ من بدء العدوان... وكأنّ ذلك بمثابة مباركة لهذا العدوان، أو تأجيل مقصود بانتظار تبدّل الظروف السياسية، حتى لا يلقى الوضع الناشئ وقتها استحقاقاتٍ معيّنة على أعضائها.

ويلاحظ قارئ البيان الختامي للقمة تكرار كلمات معينة، منها الرفض، الإدانة، الاستنكار، التأكيد، الدعم، المطالبة، الدعوة، من دون أية إجراءات تنفيذية ومُلزمة لقادة القمّة، وهو ما ينطبق على القرارين 3 و12 الخاصّين بكسر الحصار على غزّة ودعوة الدول المشاركة إلى ممارسة الضغوط الدبلوماسية والسياسية والقانونية، واتخاذ أي إجراءات رادعة تجاه الاحتلال. وتجاهلت القمّة أيضاً اتّخاذ إجراءات عملية ضاغطة على "إسرائيل" أو على دول الغرب والولايات المتحدة، بغرض وقف إطلاق النار ووقف الجرائم الجماعية ضد المدنيين، خصوصاً من الدول التي لها علاقات بإسرائيل.

وتاريخياً، لم تنجح القمم العربية منذ نشأة جامعة الدول العربية في اتخاذ إجراءات عملية لدعم الشعوب العربية سلماً وحرباً. وعند مقارنة بيانات تلك القمم طوال العقود الثلاثة الماضية، لن تظهر أيّ اختلافات بينها، ولا تقييم للمواقف السابقة، وسيتّضح غياب أي إجراءات عملية وواضحة لمقرّراتها الختامية، سواء في اتخاذها أو تنفيذها بشكل جماعي. وقد طاولت الاختراقات الإسرائيلية كل ما أعلنته القمم السابقة، وبشكل خاص، في ما يتعلق بالتطبيع مع الاحتلال، من دون شروط مسبقة، وحلّ السلام مقابل السلام بديلاً من "الأرض مقابل السلام"، وباتت كلّ دولة تأخذ الموقف الذي تريده دون التزام أي مرجعياتٍ عربيةٍ مشتركة سابقة. وتناسى الجميع موقفهم السابق من قضية العرب الأولى، بما فيها إنشاء الدولة الفلسطينية وتجاهل تجميد المسار السياسي والتفاوضي بين منظمة التحرير وإسرائيل، بسبب استمرار الاحتلال بفرض الأمر الواقع بسرقة الأراضي وبناء المستوطنات وطرد الفلسطينيين من مساكنهم. ونجحت "إسرائيل" في تبادل علاقات كاملة مع الإمارات والبحرين والمغرب، وجزئية مع السودان، إلى جانب مصر والأردن في السابق، في تجاهل تام لكل القرارات العربية السابقة، في ما يتعلق بضرورة إنشاء دولة فلسطينية، وكأنها تكافئ الاحتلال على ممارساته مع الشعب الفلسطيني.

افتقدت العلاقات العربية المشتركة عنصر الندّية بين أعضاء الجامعة، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار ضعف العمل العربي المشترك

ويعزو الخبراء هذه المشكلات إلى ميثاق الجامعة الذي يشترط الإجماع لتنفيذ القرارات، وعدم وجود إرادة سياسية موحّدة لتفعيل مؤسسة جامعة الدول العربية كما يحدث مع الاتحاد الأوروبي رغم أسبقيّة الأولى. والحاسم هنا أنّ دولاً عربية مؤثّرة باتت تفرض توجّهاتها على مسار العمل العربي المشترك، وتحوّلت دفّة هذا التأثير من مصر في حقبة التحرر من الاستعمار، ليتغيّر ذلك في العقدين الأخيرين، حيث باتت دول في الخليج، خصوصاً السعودية والإمارات، تفرض توجّهاتهما الأساسية بسبب إمكاناتهما المالية الكبيرة، كذلك فإنها تملك الحصة الأساسية في تمويل نشاط الجامعة ومؤسّساتها. والأهم أنّ كلّاً منهما يتبنّي نهجاً سياسياً واقتصادياً، يضع في الأولوية مواقف قياداتها، حتى ولو لم تتّسق مع الموقف العربي التاريخي، الذي أقرّته القمم السابقة، سواء باتخاذ مواقف محافظة من العدوان الإسرائيلي على غزّة، وانتصاراً لعلاقاتها بدولة الاحتلال.

وتوازي مع ذلك تبنّي خطاب إعلامي وسياسي ضد المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، والتماس الأعذار للسلوك الإسرائيلي، وهو ما ظهر في رفض نهجٍ متشدّد تجاه العدوان، ورفض أي إجراءات عملية بالضغط على الغرب، بسبب دعمهم ما أسموه حقّ "إسرائيل" في الدفاع عن النفس، فهل ما زالت الجامعة صالحة بشكلها الحالي، لتستمر حاضنة للعمل العربي المشترك؟

أصبح تعزيز العمل العربي المشترك على غرار ما يحدُث في الاتحادين، الأفريقي والأوروبي مطلباً ضرورياً من خلال طرح حلول غير تقليدية تتجاوز الوضع الراهن

يبدو هذا صعباً، إذ يظهر موقف الجامعة أن لدى بعض دول الإقليم المسيطرة، بسبب مواردها النفطية، مشاريع خاصة، وتسوّق توجهاتها على حساب أي توجّه عربي مشترك ينطلق من الأدبيّات التاريخية السابقة، ولا سيما في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، وأصبحت الجامعة بالنسبة إلى هذه الدول مجرّد أداة يمكن لها تمرير ما ترغبه من سياسات وقرارات، وتعطيل ما ترفضه من مقرّرات، وهنا افتقدت العلاقات العربية المشتركة عنصر الندّية بين أعضاء الجامعة، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار ضعف العمل العربي المشترك، خصوصاً في ظل انحسار الدور المصري سياسياً واقتصادياً، وهو الذي كان يمثل القاطرة الأساسية سابقاً، بسبب تردّي الحالة الاقتصادية، واعتماد مصر على دول الخليج، وحدوث تحوّل في مواقفها السياسية السابقة، بوجود تنسيق عالٍ مع الحكومة الإسرائيلية، ووصول التبادل الاقتصادي إلى أعلى درجاته، خصوصاً في مجال الطاقة والغاز.

في ظل هذه الأوضاع، أصبحت القيادة الأساسية في هذا النظام خليجية، في ظلّ صعوبة قيام دول كبيرة بهذا الدور بسبب موقعها الجغرافي، مثل الجزائر، أو بسبب وضعها الاقتصادي والسياسي المعقد مثل العراق. وفي ظل هذا التصوّر، يدور العمل العربي مستقبلاً بين عدة سيناريوهات بين إبقاء جامعة الدول على وضعها الحالي، والآخر بتحديث ميثاقها وإحداث تحوّل في الإرادة السياسية لدولها، بما يخدم الشعوب العربية، ويؤدّي إلى تغيير إيجابي. وقد يؤدّي السيناريو الثالث إلى قناعاتٍ جديدة من بعض الدول، كالجزائر والعراق، بطرح أشكال تنسيقية بديلة، أو الإبقاء على الوضع الراهن، طالما يحقّق مصالحه السياسية والاقتصادية، والأخير بتفعيل رؤى بديلة.

في النهاية، أصبح تعزيز العمل العربي المشترك على غرار ما يحدُث في الاتحاديْن، الأفريقي والأوروبي مطلباً ضرورياً من خلال طرح حلول غير تقليدية تتجاوز الوضع الراهن.