احتيال على القارئ وتهميش للضحايا
في تغطيتها أحداث "مسيرة الأعلام" الصهيونية في القدس المحتلة، وضعت صحيفة عربية، تصدر في بلد تطبع حكومته مع الإسرائيليين، عنواناً لتقريرها عن القصة، يقول: "مسيرة الأعلام تعكس إصراراً متبادلاً على التصعيد"!. .. ولن يخفى على القارئ، أن مثل هذا العنوان يعكس تصوّراً مختلفاً عن الواقع، فالتصعيد، كما هو معلوم، يأتي من جهة المحتلين، بينما يمكن القول إن كل الخطوات التي قام بها الفلسطينيون كانت دفاعية، وحتى التهديدات التي أطلقتها حركة حماس بالتصعيد، ولم تنفذها، إنما جاءت في السياق ذاته.
إذا جرّدنا العنوان المريب من حمولته التي تساوي بين الضحية والجلاد، عبر منحهما الإمكانية ذاتها في الفعل ورد الفعل، ولجأنا إلى تحليل خطابه من الزاوية المهنية، سنواجه مشكلة أخرى، أن من صاغه بدا وكأنه يبحث عن الإثارة، بينما يفترض المرء أن الصحيفة العربية لا بد أن تركز على أساس القصة، أي الاحتلال، وسياسته المتصاعدة باتجاه تهويد المدينة المقدسة.
في صحف أخرى، لن نجد صعوبة في ملاحظة عناوين مهنية كثيرة، تركّز، وبشكل مهني، على أساسيات الخبر الصحافي، فتسمي التفاصيل بأسمائها الحقيقية، الأمر الذي يعني أن هؤلاء مازالوا يحافظون على مهنيتهم، قبل أن يحافظوا على مواقفهم الأخلاقية والسياسية، تجاه القضية الفلسطينية. ولنا هنا أن نفكّر كثيراً إن كنا نستطيع الفصل بين المسارات الثلاثة في مثل هذه القصة المستمرة منذ 74 عاماً.
تغليف الأخبار بطبقة من "نايلون" كتيم يعمي على عيون القرّاء أو المشاهدين، وكذلك المستمعين، بات جزءاً من استراتيجية الخطوات السياسية لموجة التطبيع
الآخرون الذين تأخذ أقلامهم هبات السياسة الرسمية يميناً ويساراً، يمكنهم الفصل، ويستطيعون أيضاً التفصيل في أي قصة تجري في الأرض المحتلة. يمكنهم مثلاً أن يتخذوا موقفاً واضحاً مندّداً بجريمة قتل مراسلة قناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، لكنهم في مقتل الأسيرة المحرّرة الصحافية الشابة، غفران وراسنة، يلجأون إلى رواية الجيش الإسرائيلي، عما جرى في مدخل مخيم العرّوب، حيث تذرّع الجنود الذي أعدموها، بدم بارد، بأنها كانت تحمل سكيناً، وأنها كانت مقدمةً على عملية طعن، بينما يروي شهود عيان أن هذا لم يحدث، وأن الصبية كانت متجهة إلى عملها.
تبيان الحدود الفاصلة بين "المهنية الصحافية" المنافقة، والمداهنة، للموقف السياسي، وتلك التي تنتصر للضحايا الذين تحولهم "الميديا" إلى مجرّد عناصر وأدوات في الأخبار، يحتاج هذه الأيام إلى انتباه دائم، لأن تغليف الأخبار بطبقة من "نايلون" كتيم يعمي على عيون القرّاء أو المشاهدين، وكذلك المستمعين، بات جزءاً من استراتيجية الخطوات السياسية لموجة التطبيع. ففي الأحداث اليومية، يمكن للتقارير التي تنقل عن وكالات عالمية أن تجعل من موت الفلسطينيين أمراً معتاداً، إذ يسهل القول، وعلى طريقة بيان الجيش الإسرائيلي، إن المقتول كان يريد تنفيذ عملية طعن، من دون أن يتحقق الصحافيون من حقيقة الأمر، ومن دون انتظار أي بيان لجهة فلسطينية يوضح ما جرى. ولعل الكارثة الأشنع في كل هذه التقارير والأخبار أن الجميع بات يتعامل مع قتل الجنود المسلحين المدنيين شبه العزل، بحجة نيتهم القيام بطعنهم، أنها ردّة فعل مقبولة، وشرعية.
"كان بإمكان الجندي الإسرائيلي تحييد الشهيدة غفران"، يقول خالها في تقرير تلفزيوني، "لكنه اختار أن يطلق الرصاص على صدرها كي تكون الإصابة قاتلة". القصة يمكن تلخيصها في كلمة التحييد ذاتها، فبينما كانت تعني، في أصلها، إصابة المستهدف أو اعتقاله، أو إجباره على الاستسلام، نجد أنها في الواقع المكرّس بالسلاح والنيران، صارت كلمة مخفّفة عن فعل القتل.
جزء غير قليل من الصحافة العربية وصحافييها باتوا يعملون لخدمة السردية الإسرائيلية اليومية
وبمثل هذا التحوّل لمضمون كلمة واحدة، يتم إيجاد مسطرة من المعاني الجديدة لما كنا نتعامل معه لغوياً أنه حقائق راسخة، فالاعتداء على المصلين في المسجد الأقصى يصبح اشتباكاً بين فلسطينيين ومستوطنين، وربما سيكتب بعضهم أنها مجرّد مشاجرة، مستوحين ومقلدين بذلك الطريقة التي يفهم بها فنانون غربيون الصراع في فلسطين، الأمر الذي يعني بالنسبة لهم إمكانية صناعة مواد ترفيهية مبنية على محاولة إصلاح ذات البين بين الجهتين.
يشعر المرء، ولا يحتاج أدلة لإثبات ذلك، بأن جزءاً غير قليل من الصحافة العربية وصحافييها باتوا يعملون لخدمة السردية الإسرائيلية اليومية، حيث يظنون أن قيامهم بذلك يرفع من سويتهم وكينونتهم إلى عتبة حضارية أعلى. ويوحي سياق ممارستهم هذا بأنه عطرهم الصباحي، ورطانتهم باللغات الأجنبية، يمنعهم من الالتفات إلى الجهة الأخرى من الخبر، ويلجمهم من الحديث عن أولئك المقتولين القادمين من المخيمات، ومن قاع حيوات، دمرها الاحتلال، وما زال يفعل.