احتجاجات إسرائيل: البرادعي وآخرون معجبون
مرّة أخرى، يدهشنا محمد البرادعي بإعجابه بما يسميه "المجتمع المدني في إسرائيل" ودفاعه عن "حقه في الديموقراطية والحرية والتعددية"، فهل حقًا ثمّة مجتمع مدني في هذا الكيان الاستيطاني؟
لم نعرف أن مجتمعًا مدنيًا يحمل غالبية أفراده السلاح ويتعاملون به، بل ويتسلّحون بدعم وتشجيع من السلطات الحاكمة، فيما يشبه منحهم تراخيص بالقتل، إذ تقول الأرقام الحالية إن هناك أكثر من مائة وستين ألفًا من المستوطنين الصهاينة يحملون السلاح، وهؤلاء مدعوون، ومتطوعون طوال الوقت، إلى مشاركة قوات الاحتلال النظامية في الهجمات على البلدات والمدن الفلسطينية واقتحام المسجد الأقصى، وممارسة أعمال القتل والنهب والسلب ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض.
أخيرا، جرى الإعلان رسميًا عن مشروع لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، يهدف تسليح المستوطنين، وهو أمر منطقي للغاية بالنظر إلى طبيعة "إسرائيل" المعروفة منذ بدايات التأسيس بأنها"جيش له دولة" والموصوفة من واقع الدراسات السياسية والتاريخية والاجتماعية بأنها كيان إحلالي استعماري قائم على انتزاع هذه الأرض بالقوة من سكّانها الأصليين وإبعادهم وإبادتهم، وهذا هو المشروع القومي لهذا الكيان منذ بداياته، والمستمرّ في اللحظة الراهنة وفي المستقبل.
جرى تنفيذ هذا المشروع على يد هؤلاء الذين يسمّيهم الدكتور البرادعي "المجتمع المدني". تاريخيًا، دشّنت سلطات الانتداب البريطاني مبدأ "المجتمع الصهيوني المسلح"، حين سمحت للجنة الصهيونية بإنشاء حراساتٍ خاصةٍ للمستعمرات، فكان تأسيس منظمة الهاغاناه الصهيونية المدنية الإرهابية في يونيو/ حزيران 1921 وحدات الدفاع الذاتي، بل تولّت السلطات البريطانية تسليح اليهود وتدريبهم، وسهّلت عمليات تهريبهم الأسلحة .
يتساءل البرادعي، بعد تسجيل إعجابه بالمجتمع الصهيوني: هل نتوقع أن يطبق نفس المبدأ على المواطنين والجيران من الفلسطينيين؟ كما نعرف إذا تجزأت المبادئ تتحول إلى شيء بغيض: عنصرية.
صار الفلسطيني، بحسب البرادعي، جارًا للصهيوني المثير للإعجاب، وليس صاحب الأرض الأصلي والمعتَدى عليه، ولا يقرّ الصهيوني بوجوده من الأساس، أو يعترف بأن هناك مجتمعًا فلسطينيًا، وهذه النظرة العنصرية تجدها عند الحاكم والمحكوم في هذا "المجتمع المدني جدًا". وعلى حد قول وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، "لا يوجد فلسطينيون لأنه لا يوجد شعب فلسطيني".
في أكتوبر/ تشرين أول من العام الماضي ومع دعوة حكومة الاحتلال المستوطنين إلى حمل جميع أنواع الأسلحة في أثناء الاحتفالات بما تسمّى رأس السنة العبرية، قلت إنه لا يمكن، بأي من المقاييس العقلية والاعتبارات الأخلاقية والمنطقية، افتراض وجود مجتمع مدني إسرائيلي، إذ كل ما هنالك مجموعة من العسكريين المهووسين دينيًا، ومجموعة من المتديّنين المتطرّفين المتعسكرين، ومجموعات من المستوطنين، هم خليط من اللوثة الدينية المتطرّفة والهوس العسكري القاتل، مطلوب منا أن نعتبرهم "مواطنين" طبيعيين في مجتمع بشري طبيعي داخل دولة طبيعية.
والوضع كذلك، يبدو هذا الإعجاب الرومانسي بتظاهرات المستعمرين الإسرائيليين ضد حكومة الاحتلال باعثًا على الأسى، خصوصًا ونحن بصدد حمّى الإحالات والمقارنات بين ربيع عربي، كان في أحد تجليّاته انتصارًا لفلسطين، وموجة الاشتباكات بين المحتلين وسلطاتهم، احتجاجًا على تغييراتٍ في النظام القضائي الإسرائيلي.
ربيعنا عربيٌّ خالصٌ مع فلسطين وضد الكيان الصهيوني، الذي كان في صدارة الذين قرّروا إضرام النار فيه، وساعد الذين انقلبوا عليه، أما ما يجري في فلسطين المحتلة الآن فهو اشتباكٌ بين أجيال مختلفة من اللصوص يتعاركون فوق سقف بيتٍ مسروق، لا فرق بين حاكم ومحكوم، أو بين سلطةٍ ومعارضة، أو بين اشكيناز وسفارديم .. أو يمين ويسار .. لا فرق بين إيهود باراك الداعم للاحتجاج وأكثر من قتل عربًا ونتنياهو رئيس الحكومة المطلوب إسقاطها .. كلهم مستعمرون، كلهم سرقوا بيتنا وتنافسوا على من يقتلنا أكثر، فلا تكلّمني عن حرية وديمقراطية وثورة هنا، فالثورة عملٌ وطنيٌّ وليست نشاطًا استيطانيًا.
أخيرًا، ثمّة لقطة لخصت القضية كلها: فيما كان المجتمع المدني الصهيوني يتظاهر ضد حكومة نتنياهو، ويشتبك مع قوات أمن الاحتلال، رفع مواطن من عرب 48 علم فلسطين، فاتحد المستوطن المتظاهر مع العسكري لمطاردة العلم الفلسطيني ومحاولة إسقاطه وإحراقه، بينما البرادعي وآخرون يواصلون التغنّي في مفاتن المجتمع المدني الصهيوني، السلمي مع بعضه بعضًا والمسلح الدموي ضد كل ما هو فلسطيني.
لا أستبعد أن نسمع من أحدهم إن إسرائيل تصدّر الثورة، ويطلب منا التعلم من هذا الحراك الصهيوني المُلهم.