اجتياح رفح للمضي في الإبادة الشاملة
لم تتمكّن الإدارة الأميركية من إقناع حكومة اليمين المتطرّف العنصري بالموافقة على اتفاق بين إسرائيل وحركة حماس، يفضي إلى تهدئة توقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ويتم خلالها تبادل الأسرى وتدفق المساعدات الإنسانية، فاكتفت بتقبل فشل وزير خارجيتها، بلينكن، في زيارته الخامسة منذ 7 أكتوبر إلى إسرائيل، ولم تحرّك ساكناً حيال ضرب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عرض الحائط الاتفاق الذي صاغته في باريس بالتنسيق مع كل من الدوحة والقاهرة، لأنه لا يريد وقف حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزّة، بل استكمالها باجتياح منطقة رفح، ولا يأبه بأنها الملاذ الأخير لأكثر من مليون فلسطيني، ولا بحساسية موقعها على الحدود المصرية مباشرة، فأولوية حكومة اليمين العنصري التي يقودها استكمال التغوّل في الدم الفلسطيني، وتهجير ما أمكن من سكّان قطاع غزّة، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش، بارتكاب جريمة إبادة سكنية بالتزامن مع الإبادة الجماعية.
حيال ذلك كله، لم يتجاوز الرئيس الأميركي بايدن نقدَه الناعم ما ترتكبه الآلة العسكرية الإسرائيلية من جرائم في غزّة، عبر الحديث أن الرد العسكري الإسرائيلي في القطاع "تجاوز الحد"، وأنه (بايدن) صرَف كثيراً من وقته، وعمل، من دون كلال، من أجل التوصل إلى اتفاق بين حركة حماس وإسرائيل، و"ضرورة مراعاة المدنيين"، لكن المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، خالفه في ذلك، حين تشدّق كذباً وتضليلاً بزعمه أن الجيش الإسرائيلي "أكثر حذراً" من الجيش الأميركي عندما يتعلق الأمر بحماية المدنيين، وسبق له أن زعم بعدم وجود أي ضحايا من المدنيين في غزّة، الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ عديدة بشأن تعمّده الكذب والتضليل والأدوار المكلف بها في الإدارة الأميركية.
يتشابه ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة من إبادة سكنية مع نموذج مدينة غروزني في جمهورية الشيشان التي دمّرها الجيش الروسي تدميراً كاملاً في نهاية 1999، ونموذج مدينة حلب السورية التي دمّرها جيش الأسد
واضحٌ تماماً أن تحذيرات بعض المسؤولين في إدارة بايدن ليست موجّهة من أجل ردع حكومة الحرب الإسرائيلية عن المضي في شنّ عملية عسكرية على مدينة رفح، التي سبق أن لم تُعر أي اهتمام للتحذيرات الأميركية بتجنّب قتل مزيدٍ من المدنيين الفلسطينيين، والتزام المعايير الدولية في زمن الحروب، كما أن حكومة اليمين المتطرّف تصرّ على رفض أي دعوة، أو صفقة، تهدف إلى وقف حربها على قطاع غزّة، بذريعة أن وقفها حالياً يعني انتصار حركة حماس، ولذلك توعّد نتنياهو بتحقيق "النصر المطلق" عليها، وهي ذريعة واهية، يتّخذها ساسة إسرائيل بغرض ارتكاب إبادة شاملة للقطاع، ويتمسّكون بها من أجل تبرير اجتياح رفح، كي يستكملوا حرب الإبادة التي يرتكبونها ضد قطاع غزة على أكثر من صعيد، ولا تتجسّد في قتل ما أمكنهم من الفلسطينيين وعطبهم فحسب، بل في دفعهم إلى التهجير، وإبادة المكان الذي يؤويهم، بتدمير شبه كامل لمدن القطاع كي تستحيل عودة المهجرين قسرياً إليها، لذلك تسعى حكومة الحرب الإسرائيلية إلى اجتياح رفح لاستكمال احتلالها له، بما فيه محور صلاح الدين (فيلادلفي) على طول حدود القطاع مع مصر، وفرض واقع جديد، يستحيل على الفلسطينيين العيش فيه.
لا يهم ساسة الاحتلال الصهيوني وجنرالاته ما سيحلّ برفح، ولا بأهلها، لأن غايتهم من ممارسة العنف المفرط، تنفيذ لنهج دولتهم القائم على سياسات إماتة الفلسطينيين، التي تمتد إلى إبادة المكان، بتدمير أماكن سكنهم، كي يفقدوا فضاء عيشهم. وهي جريمةٌ تُضاف إلى جرائم الإبادة الجماعية التي ميّزت التاريخ الإسرائيلي، واستدعت اجتراح المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحقّ في السكن اللائق، بالاكريشنان راجاغوبال، مفهوم "الإبادة السكنية" (Domicide)، الذي طالب بإدراجه إلى قائمة الجرائم ضد الإنسانية، إذ أدّى القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزّة، منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى تدمير أكثر من 75% من المباني السكنية فيه، وألقت إسرائيل من المتفجّرات ما يعادل قنبلتين ذرّيتين من عيار التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية في 1945. وجرى تهجير ما يقارب المليونين، أي ما يقارب 85% من سكّان القطاع، من مساكنهم إلى رفح والمناطق المتاخمة للحدود المصرية، فضلاً عن قصف المشافي، وتدمير المدارس، ومراكز الإيواء وتجريف المعالم التاريخية، وتخريب المؤسّسات الثقافية والدينية، ونبش المقابر، بغية محو آثار سكّان كانوا هنا ولم يعودوا كذلك، والوصول إلى تدمير قطاع غزّة كله، ومحو مظاهر الحياة فيه.
لا يعير الدأب الإسرائيلي لاستكمال الإبادة الشاملة في رفح أي التفاتة إلى الكارثة التي قد تحلّ بصفوف المدنيين
يتشابه ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة من إبادةٍ سكنيةٍ مع نموذج مدينة غروزني في جمهورية الشيشان التي دمّرها الجيش الروسي تدميراً كاملاً في نهاية 1999، ونموذج مدينة حلب السورية التي دمّرها جيش الأسد بدعم من الجيش الروسي والمليشيات الإيرانية وقوات نظام آل الأسد في عام 2016، ومدينة ماريوبول الأوكرانية التي دمّرها الجيش الروسي خلال غزوه أوكرانيا عام 2022. ويمكن إضافة مدنٍ عديدة أخرى إلى قائمة المدن التي تعرّضت لمختلف أنواع الإبادة.
إذاً، يأتي مسعى حكومة الحرب الإسرائيلية لاجتياح رفح في إطار ممارستها للعنف المفرط، القائم على سياسات الإماتة بالإبادة التي تمتد إلى إبادة المكان، استكمالاً لما سبق أن قامت به إسرائيل سواء من خلال تقسيمها الأراضي الفلسطينية إلى مناطق مجزأة بواسطة نظام الطرق الالتفافية، الذي يقسم الضفة الغربية إلى 64 كانتوناً صغيراً، أم من خلال تغيير معالم المدن وتدمير القرى، فقد قامت إسرائيل بعد عام 1948، وفق الباحث سلمان أبو ستة، بتدمير القرى الواقعة على امتداد الطريق بين يافا والقدس، وطوال 15 عاماً دُمّرت 410 قرى من أصل 560 قرية فلسطينية جرى تهجير أهلها الفلسطينيين.
لا يعير الدأب الإسرائيلي لاستكمال الإبادة الشاملة في رفح أي التفاتة إلى الكارثة التي قد تحلّ بصفوف المدنيين، لأنه يصدُر عن عقل سياسي يميني عنصري، شعارُه العداء للآخر الفلسطيني، بوصفه عدواً أنطولوجياً، أي وجودياً، ومن حقّه أن يرتكب كل أنواع الجرائم ضدّه، بما فيها التي ترتقي إلى مصافّ جرائم الإبادة الجماعية، وكل أنواع الجرائم ضد الإنسانية. وانعكس ذلك كله في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، إذ لم يتردّد رئيس دولة الاحتلال، إسحاق هرتسوغ، في اعتبار أن "أمة غزّة مسؤولة بأكملها"، فيما طالب وزير التراث، أميخاي إلياهو، باستخدام السلاح النووي ضدّ القطاع، بل كرّر دعوته في أكثر من مناسبة. أمّا رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، فلم يجد سوى الرجوع إلى التوراة ليقيم الصلة الإبادية بين العماليق والفلسطينيين، وكرّر اقتباساته منها للتحريض على قتل أهل غزّة.