ابتسامة بشّار الأسد التي لا تنتهي!
يحرص بشّار الأسد على الابتسام، أن يظلّ مبتسماً، يحاول بدأبٍ إتقان هذا الفعل الميكانيكي البسيط الخالي من العيوب، وكأنه يتدارى به من رؤية سُلالة هزائمه السياسية المتلاحقة والممتدة لحظةَ تجسّدها أمامه. فعل ذلك في مدينة هانغجو الصينيّة، وفي قرية سياوتشينغ، برفقة زوجته. كان يُظهر تلك الابتسامة التي يفهمها السوريون أكثر من سواهم، وهي تقتحم وجهه المزروع بالبوتكس. أراد أن يبتسم سياسياً خلال رحلة نقاهته أخيرا في الصين، حين تفرّج على افتتاح دورة الألعاب الآسيوية الـ19، أو حين زار محافظتي طرطوس واللاذقية.
وغالباً ما تحتلُّ ابتسامة بشّار الأسد هيكل إيماءاته التي يتكئ عليها، فهي ليست ابتسامةَ سخرية، ولا تشفٍّ، وليست ابتسامةً عذبةً يمكن تصديقها، دائماً تتقعّر إلى الأسفل، كأنها انخسافٌ بائس يصيب شفتيه. تلك الابتسامة التي تطوّرت داخل حفلات التصفيق الصاخبة التي كان يعزفها له مجلس الشعب السوري باقتدار، أو حين كانت تتغذّى بأسمدة النفاق السياسي ورائحته المنبثقة من قيادة حزب البعث، وأحزاب الجبهة التقدميّة، وقيادات الاتحادات والنقابات المهنية، وتقارير رؤساء الأجهزة الأمنية حين كانت تُرفع إليه، وتخبره بأن الكون يتآمر مساءً على ابتسامته الجميلة، وهم يريدون إخماد (المؤامرات) إلى الأبد.
لم تتغيّر مكوّنات ابتسامة بشّار تلك، ولا وصفة تحضيرها، سواء خلال فترة عشقه "الأردوغانيّة السياسية" وذبح الصناعة السورية قربانٍا نذرَه لأجل اتفاقية للتجارة الحرة بين سورية وتركية جرى توقيعها عام 2007، أو من خلال عدائه الصبيانيّ لأردوغان لاحقاً، وبعد 2011 على وجه الخصوص. بقيت ابتسامةً مدّعية إذاً تتقمّص الهيئة نفسها، سواء قبل إحراق سورية وموتها الجائر، أو فيما بعده.
ولعلّ الخصائص "السيكوباتيّة" المُضمرة داخل ابتسامة رئيس النظام السوري جعلتها قابلة للمثول على وجهه بلا مشقّة أو عناء، وفي كل المواقف التي زجّها بها، فهي ثابتة الإيحاء، سواء كانت ترافقه في تفقّد كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب شمال البلاد في شهر فبراير/ شباط من هذا العام، أو حين كانت تستلقي على شفتيه، وهو يُحصي العطب الذي أصاب ريف اللاذقية بعد تعرّضه لحرائقَ هائلة مطلع شهر أغسطس/ آب الماضي، أو ربما حين كانت تُطالع بإعجاب ملامح وجه مذيعة التلفزيون الصيني الرسمي، وهي تجري مقابلةً مملّةً معه خلال زيارته الصين الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وقد حازت بعد انتهائها على تشكيلة حلويات سورية محبوسة داخل علبة خشبية مطعّمة بالصدف، هي على الأرجح من مصنوعات سوق الحرف اليدوية والتقليدية الذي استولت عليه زوجتُه، مثلما استولت على الحرفيين الذين كانوا يعملون فيه، وصارت تصدّر إنتاجهم المستولى عليه إلى أسواق دافئة في الخليج، وأسواق أخرى تعشق الصناعات التقليدية شرقيّةَ الطابع. ولا تسأل عن علاقة "الأمانة السورية للتنمية" بتلك الصناعات، فتلك مؤسّسةُ تسيطر عليها أسماء الأسد، وترتديها كلما أرادت أن تستعير قطاعاً اقتصادياً أو خدمياً في سورية، لأجل أن تحلبه داخل وعاء رصيدها المالي، تفعل ذلك وهي مبتسمة، مثلما اعتاد زوجها الابتسام.
صار بشّار الأسد يظهر بابتسامةٍ أقلّ اتساعاً من سابقاتها، وكأنه شذّبها مرغماً فوق عنقه الطويلة
ولكن انتفاضة السويداء، بكل ما أنجبته من مظاهر احتجاجية، جاهدت بواسطتها لكي تقتصَّ من عجرفة النظام السياسي القائم و"زعيمه"، وذلك بإتلاف كثير من صور الأسد الأب والابن، وتحطيم عديد من تماثيلهما، جعلت من رحلة بشّار إلى الصين كما لو أنها رحلةُ نقاهة واستشفاء من كل المهانة التي صوّبتها إليه المحافظة الجنوبية، الثائرة عليه منذ نحو شهرين، وجعلت زوجته تُنشئ من هناك صفحةً خاصة لها على تطبيق "إنستغرام" لتبثَّ منها صوراً مناهضة لصور إهانة زوجها في الجنوب السوري، فكانت تحاول، على الأقل، تضميد ابتسامة العائلة الباهتة، ومعالجة أي عطبٍ محتملٍ قد يصيب ابتسامة زوجها المتململ أصلاً من شعارات حراك السويداء حين طاولته بصورةٍ جارحة، ومحرجة للغاية أمام باقي المناطق الخاضعة لسلطته، سيما في الساحل السوري، حيث تتركّز حاضنته الطائفية هناك.
أخيرا، صار بشّار الأسد يظهر بابتسامةٍ أقلّ اتساعاً من سابقاتها، وكأنه شذّبها مرغماً فوق عنقه الطويلة، التي تزداد هزالا مع الأيام، حتى خلال مشاركته أخيرا في إحياء ذكرى المولد النبوي في جامع عمر بن الخطاب في اللاذقية، كان فمهُ لا يجازف بأي ابتسامةٍ فسيحة التكوين كما اعتاد في السابق، وهذا ما ظهر عليه في زيارته أخيرا طرطوس، بعدما اهتدى إلى تقتير ابتساماته أيضاً، حين استقبله بعض مؤيّديه في الطريق العام، وفي الأماكن التي زارها، إذ ربما نبّهته مستشارته الإعلامية، لونا الشبل، إلى أن ابتسامته المتوهّجة باتت لا تناسب المرحلة السياسية الحالية من عمر البلاد، وأنها تكشف أكثر عن خلل عنقه الرفيعة، فيصير معها أكثر بشاعةً في عيون من يواليه.
في خراب سورية أخيرا، تصبح ابتسامة الأسد بكلّ تلوّناتها، وجذّرها "السيكوباتي" العميق مكوّناً أساسياً يشمت بكلّ هذا الخراب المدبّر
ثم عاد ليختبئ بعد انتهاء معراج ابتساماته تلك بين الصين واللاذقية وطرطوس، بقي غائباً عن مشهد وداع من قضى في حادث استهداف حفل تخرّج ضباط الكلية الحربية في حمص بطائرة مسيّرة، والذي زادت فيه أعداد القتلى عن المائة، معظمهم من أبناء الطائفة العلوية. ربما جرفته هلوساته بعيداً إلى حيث يستطيع أن يتجاوز مقدرة نيرون على إحراق روما بلا ندم، إذ أسرع جيشُه وطائرات الاحتلال الروسي إلى قصف ريف إدلب، ليجمع منها عشرات القتلى والجرحى خلال أيام قليلة، بعد أن طارت رسائلُ استهدافِ ضباط الكلية الحربية إلى ثلاثة اتجاهات على الأقل، أولها إلى العمق الطائفي لزعيم النظام المبتسم، حيث التهمة الأثيرة على قلبه جاهزةٌ لإعادة بثّها مجدّداً داخل الوعي الجمعي للعلويين، وفيها أنهم مستهدفون، كالعادة، من الإرهاب بصورته السنيّة الراديكالية، وهو القادر على حمايتهم، ولديه أبواقٌ كثرٌ تنفعه بتسويق هذه المزاعم، ومنها المطرب ريبال الهادي الذي طالب جيش بشّار بالإسراع في إبادة إدلب، وإليها تطير الرسالة الثانية من وراء قصف حفل التخرّج ذاك بطائرةٍ مسيّرة، مفادها بأن في استطاعة النظام وحلفائه تسخين جبهة الشمال مع تركيا متى يشاؤون، وربما تكون الرسالة الثالثة موجّهةً إلى الدروز في الجنوب، وهم المواظبون على حراكهم السلمي المناهض لسلطة الأسد منذ قرابة 50 يوماً، ومفادها بأن في مقدور النظام وحليفه الإيراني اللعب بالمسيّرات المفخّخة داخل السويداء أيضاً، وإلصاق ذلك بتنظيم داعش على سبيل المثال، وتلك أيضاً تهمةٌ جاهزةٌ للتداول، لا يبخل النظام بإطلاقها متى تستدعي الحاجة.
أما في خراب سورية أخيرا، فتصبح ابتسامة بشّار الأسد بكلّ تلوّناتها، وجذرها "السيكوباتي" العميق مكوّناً أساسياً يشمت بكلّ هذا الخراب المدبّر ويغذّيه، وأحياناً يتذوّقه، ويعدّل على ميزان تكوينه، هكذا وباقتدارٍ إلى أن تفنى البلادُ بمن فيها.