إيريك زمّور .. زمّور الخطر في فرنسا
استفاد الحزب الشيوعي الفرنسي منذ تأسيسه عام 1920 من ألق الثورة البلشفية أولاً، ومن ثم انخراطه في العمل السياسي المحلي، وتشكيله القوة اليسارية الأولى في البلاد. كما أنه لعب دورا أساسياً في مقاومة الاحتلال النازي، عبر مساهمته في العمل المقاوم بتنظيم دقيق وفعالية عالية. واستمر النشاط السياسي للشيوعيين الفرنسيين، وسيطروا على النقابات العمالية، وشاركوا في حكومات، ونشطوا في الريف وبين المثقفين. ومن أهم إنجازات ممثليهم البرلمانيين إقرار حق التصويت للمرأة الفرنسية سنة 1944 وقوانين الضمان الاجتماعي سنة 1946، وبلغ عدد نوابهم 182 في البرلمان المنتخب سنة 1946، ليصبح الحزب الأول في المسرح السياسي الفرنسي. وبسبب الحرب الباردة، واشتراطات مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، عمدت القوى السياسية الفرنسية على إبعاده عن الحكومة اعتبارا من سنة 1947 وحتى 1958 نهاية الجمهورية الفرنسية الرابعة. وقد ساهمت التبعية لموسكو وقبول الشيوعيين الفرنسيين بغزو المجر في انخفاض شعبية الحزب وانفكاك بعض رموزه عنه. وقد أيد الحزب المرشّح فرانسوا ميتران في رئاسيات 1965 التي خسرها أمام شارل ديغول. وازداد ضعف الشيوعيين الفرنسيين بتأسيس الحزب الاشتراكي سنة 1972، ومن ثم دعم الشيوعيون ميتران مجدّدا في انتخابات 1981 الرئاسية، والتي فاز فيها، ودعاهم إلى المشاركة في الحكومة بأربعة وزراء، سرعان ما تركوها سنة 1984. وقد أجمع المراقبون السياسيون أن ميتران استطاع، بهذا الإشراك المؤقت، أن يقضي، بشكل شبه نهائي، على الحزب الذي تراجع بقوة، خصوصاً مع نجاح حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرّف، في استقطاب ناخبيه من العمال. كما نجح ميتران بإضعاف الحزب اليميني الديغولي، بتشجيع صعود اليمين المتطرّف، عبر تعديلاتٍ في النظم الانتخابية.
قفز زمّور بفضل دعم الإعلام الذي تسيطر عليه رؤوس أموال يمينية وترويجه، ليصبح من أبرز أدوات الخطاب العنصري
بعد عدة عقود، يعود إيمانويل ماكرون إلى إضعاف خصومه السياسيين باتباع خطوات شبيهة بخطوات الرئيس الراحل ميتران، فمنذ وصوله إلى قصر الإليزيه سنة 2017، استطاع إنهاك جميع خصومه من اليسار ومن اليمين. كان وزيراً في حكومة فرانسوا هولاند الاشتراكية، وبالتالي، تمكّن من جذب فئة من الاشتراكيين الشباب والطموحين وضمّهم إلى فريقه. وأدّى هذا إلى الامعان في انحدار قوة الاشتراكية الفرنسية والتي بدت في الانتخابات المحلية والإقليمية الأخيرة في أدنى تمثيل لها. كما أضعف حزب الجمهوريين الديغولي من خلال استقطاب رموز منه للمشاركة في الحكومة تحت رايته. ومن جهة أخرى، تماهى بعض وزرائه في الخطاب مع مفردات حزب التجمع الوطني اليميني المتطرّف الذي وجد نفسه معتدلاً، رغماً عنه، أمام بعض المواقف الحكومية، خصوصاً التي تمسّ الإسلام ومسألة العلمانية. وقد وصل الأمر بوزير داخليته إلى وصف زعيمة اليمينيين المتطرّفين، مارين لوبين، بالتهاون، في أثناء مناظرة تلفزيونية. ومع صعود نجم الصحافي العنصري والشعبوي، إيريك زمّور، ظهر وكأن ماكرون يُحبّذ فكرة وجوده، لإضعاف اليمين المتطرّف بإيجاد من هو متطرّف أكثر من هذا اليمين. وإثر تعرّض زمّور إلى الشتم في الشارع من شابٍّ، اتصل به رئيس الجمهورية، في خطوةٍ غير مسبوقة، ليتضامن معه ويؤازره. وزمّور هذا مُدان قضائياً بتهم عدة، منها إشاعة الكراهية والخطاب العنصري. ومن معلّق مشارك في برامج ترفيهية، يبحث عن الصدام الدائم والجاذب لجمهور المعالجات السطحية والخطاب المؤامراتي، قفز هذا الزمّور بفضل دعم الإعلام الذي تسيطر عليه رؤوس أموال يمينية وترويجه، ليصبح من أبرز أدوات الخطاب العنصري الذي يتبنّى نظرية الإحلال الكبير التي تتحدّث عن إحلال الفرنسيين بمسلمين عرب وأفارقة. وصار له برنامج سياسي يومي ينفث من خلاله سمومه وكراهيته للأجانب والمسلمين.
ناخبو اليمين المتطرّف صاروا حيارى، ما سيتيح لماكرون العودة الظافرة إلى الرئاسة
بعدما استبعدت مارين لوبين اليمينية المتطرّفة فكرة التحالف مع إيريك زمّور، معتبرة أنه شديد التطرّف، وهي التي سعت إلى تقديم صورةٍ تخفّف من شيطنة الحزب الذي ورثته عن أبيها جان ماري لوبين، بدا وكأن زمور صار قطباً يمينياً متطرّفاً للغاية، وبدأ يشعر ببعض الطموح للعب دور سياسي أبرز. وفي الأسابيع القليلة الماضية، كثر الحديث عن نية إيريك زمّور الترشّح لرئاسة الجمهورية التي ستعقد انتخاباتها في شهر أبريل/ نيسان المقبل. وإثر ذلك الإعلان، بدأت التنبؤات بالنسب التي سيتمكّن من الحصول عليها من أصوات الناخبين. وفي آخر استطلاعات الرأي، وصلت حظوظه إلى 13% من الأصوات. ومن المتوقع أن هذه النسبة ستعتمد، في غالبها، على من كان يميل إلى حزب التجمع الوطني لأنه على يمينه. وهكذا، استطاع ماكرون، إن تأكّد ترشّح زمّور للرئاسة، أن يسحب البساط من تحت أقدام مارين لوبين.
في انتخابات 2017، صعدت لوبين إلى الدور الثاني أمام ماكرون، وقد أدّى هذا إلى رعب جزء من الناخبين الذين لم يشاركوا بالتصويت في الدورة الأولى، وسارعوا إلى التصويت لماكرون، من دون ميل إليه في الدور الثاني، تحت راية التصويت المفيد لمنع اليمين المتطرّف من الوصول إلى الإليزيه. في انتخابات 2022؛ اليسار منهار واليمين منقسم، أما ناخبو اليمين المتطرّف فقد صاروا حيارى، ما سيتيح لماكرون العودة الظافرة إلى الرئاسة. لقد عرف ماكرون كيف يستفيد من إطلاق زمّور الخطر عبر تسليط الضوء على إيريك زمّور.